الرأي والحديث
بعد أن كبرنا، وحصلنا على الشهادات الجامعية وقرأنا في التاريخ والدين والأدب وما شابه ذلك، أصبحنا نختلف فيما بيننا من جهة، ومع الوالد من جهة أخرى حول العديد من الموضوعات السياسية والفقهية والاجتماعية كالحجاب والدش والأغاني وعبد الناصر وغيرها.
ومن الواضح كل الوضوح أن الوالد ينتمي الى مدرسة الرأي المنتشرة في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي، بينما تنتمي الأخت بثينة إلى مدرسة الحديث.
ولكي أكون أكثر دقة، فالوالد يعرف تمامًا بأنَّ هنالك فرقًا بين ما هو كائن وما يجب أن يكون وعلى أي حال، فالخلاف هنا حول الأسلوب فقط بينما يبقى المبدأ بمنأى عن ذلك فالوالد أفكاره إسلامية بحتة من المبتدأ إلى المنتهى، وحافظ لمعظم كتاب الله، ولديه إلمام كبير باللغة والفقه والحديث وعلوم أخرى مثل الفلك والزراعة والأرصاد، ولديه حصيلة من التجارب الطويلة والعلم الموروث.
أما نحن فقد نكون أقرب إلى النمل في جمع المعلومات وتكديسها وهو أقرب إلى النحل في امتصاصها مثل الرحيق .
أحيانا أضبط نفسي متلبسا بهذا السؤال: نحن يا معشر الآباء الجدد ! هل سنعطي أبناءنا الحرية للتحاور معنا كما يفعل الوالد ؟! نعم أملك الإجابة، ولكن للأسف الشديد ليست في صالحنا جميعا.
من الأشياء التي لم ندركها: ما هو سر اهتمام الوالد بعبد الناصر ؟ بالتأكيد ليس لشخصه فالوالد ليس ناصريًا، إنه مجرد عاشق للحرية والتحرر من العبودية، وذلك الرجل كان ينادي بهذا الشيء، فالحرية -بالنسبة للوالد- أمر في غاية الأهمية بل إنها ضرورة؛ انظر كيف يعامل العمال في المزرعة! إنه يصون حريتهم و يحافظ على كرامتهم ويرفع من شأنهم، بل إنه يقف في صفهم ضد أعز أبنائه؛ يمنحهم كل ما يستطيع، حتى إنَّ الكثير من عُمال المزارع الأخرى يترددون عليهم؛ لينهلوا من طيب الرعاية وحسن المعاملة .
يتألم الوالد من أوضاع الخادمات ولقد سمعته أكثر من مرة يتساءل: كيف تقوى أولئك النسوة على تحمل الغربة وتبعاتها؟! لقد حطمت الغربة الكثير من الرجال فما بالك بفتيات تركن أعز ما لديهن وراءهن، نعم إنها عبرة، فهل من مدكر! . أتذكر عندما كنا نبني البيت، كلما أكمل عمال عمي صالح مرحلة ولو كانت بسيطة أقام لهم وليمة. محاولًا -دائما- أن يرفع من شأن أي شخص .
حتى الحديث عن الأسر القبلية وغير القبلية ليست من المواضيع المفضلة عنده، فإذا كنا نتكلم عن هذا الموضوع فإنَّ العم عبد الرحمن يتوقف عن الكلام لمجرد مجيء الوالد؛ لأنه يعرف أنه لا يحب الخوض في هذه الأمور، وله رأيه الخاص في هذا الموضوع .
أحيانا عندما أمشي معه في الطرق الزراعية يواجهنا بعض المارة، فيحاولون تقبيل رأسه فيمتنع لا لشيءٍ، ولكن يحاول أن لا يقلل من شأنهم.
نعم إن الحرية إحدى الركائز القوية في شخصية الوالد، وكما قال الفاروق -رضي الله عنه- “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ” .