الغضب النبيل
المرات التي غضب فيها الوالد لا تكاد تعد على أصابع اليد، هل كان الوالد في حينها غاضبا بالفعل؟ لا.. لا يمكن فشخصيته تتنافى جملة وتفصيلا مع هذا النوع من السلوك ، ربما كان الوالد يحاول أن يتمرد على شخصيته الهادئة والرقيقة؛ ليخرج من دائرة الهدوء والطمأنينة التي يعيشها ، لا أحد منا يذكر أنَّ الوالد قد اتخذ موقفًا من أي إنسان في حياته ، نعم هو يتضايق من سلوكيات بعض الأشخاص وليس من الأشخاص أنفسهم.
أحد الأقارب له بعض التصرفات التي تسيء للآخرين، فيتضايق الوالد منها؛ لأنها مسألة في غاية الحساسية، وعندما يأتي ذلك الشخص لزيارتنا يتظاهر الوالد بأنه يقرأ جريدة، أو كتابًا؛ ليرسل إليه رسالة عتاب، هذه أقصى درجات العنف عند الوالد ، دائمًا أنا وأخي عبد الله نتذكر لحظة غضب ظريفة و طريفة عشناها مع الوالد ، خليط من التراجيديا والكوميديا . القصة قبل أكثر من خمسين عامًا، ونحن الآن في مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، كان الوالد يعمل في البرقيات في الصباح، وبعد الظهر يعمل في بريد المبرز في العمارة الواقعة داخل السوق. عُمره في ذلك الوقت 37 عاما، أي أصغر مني الآن، وعمر عبد الله 9سنوات، وعمري 7 سنوات، كنا نذهب معه إلى البريد، ونجلس على كراسٍ ونقابله وجهًا لوجه، وكأننا أصنام، الوالد يجلس على طاولة، ويأتيه الناس ويعطونه رسائل، ويأخذ منهم قروشًا يضعها في عُلبة معدنية فارغة، وكلما قذف الوالد بقطعة من النقود في العلبة أحدثت صوتًا له رنين تجعلنا نهتز ونتحرك وننظر لبعضنا، ثم نبدأ التناوب في ترديد سمفونية مملة ومزعجة “أبوي عطنا أربعة قروش” وعلى هذا المنوال.
نعم إنها حالة تجعل أي أبٍ في الدنيا يفكر في الانتحار، ولعل الوالد نظر إلينا، فحدث نفسه قائلًا: “ماذا أفعل بهؤلاء أشكال غلط، وازعاج”. عندها دنت ساعة الصفر، وسدد الوالد ضربته الأولى إلى عبدالله حيث أخذه على حين غرة كان وقتها سرحانًا! ربما كان يفكر فيما أكلت الماعز وشربت. أما أنا فحاولت الهرب، ولكن الوالد قام بمطاردةٍ تمكّن فيها من إعاقتي عند السلم، وقصفني من الجو بكفٍ على قفاي، جعلني أقفز عتبات السلم أربع.. أربع. بعدها تدحرجتُ ووجدت نفسي ممددا أسفل السلم، وقد انفرجت أرجلي على شكل سبعة، وتجمعت ثيابي والتفّت حول عنقي، ونزل عبدالله وفي يده إحدى فردات الحذاء، والأخرى كانت تحتي وبمجرد أن نظر الواحد منا للآخر، تحول البكاءُ إلى ضحك في قمة السذاجة!
حقيقةً يقع اللوم على الذي يلوم الوالد. رجعنا إلى البيت وكأننا بقايا جيش مهزوم، ولسان حالنا يقول: “ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب”.