أمي وأمها
عندما نجلس في معية أمي، سواء في البيت أو في المزرعة، فإنها تُضفي على المكان بهيبتها بهاءً وجلالًا. يخيل إلينا بأنها تحاول أن تقوم بأدوار الجميع، تريد أن تلبي طلبات الصغار، وتحمل همومَ الكبار، عينها على الصغير خشية أن يقع أو يصاب بأذى، وقلبها منشغل بالترحيب بالضيوف، وبتقديم مراسم الاحتفاء على القواعد والأصول التي ترسخت مع السنين. لم أعرف المعنى الحقيقي للكرم إلا من خلال معايشتي لها، ولم أعرف الكرم بلا حدود إلا منها. ولم أعرف أحدًا ينفق من قليل إلا هي . بل إنها أحيانا تنفق على أشخاص هم أكثر منها مالًا! لهذا أنا على يقين بأن هناك قدرة إلهية تتدخل في كثير من الأحيان لسد النقص الذي يواجهها. أليس الكريم حبيب الله!
تروي لنا أمي اللحظة التي فقدت فيها أمها، وهي في سنٍّ مبكرة؛ إذ هي الأخت الكبرى بين أخواتها تقول: “كانت أمي على الفراش تعاني من نزيفٍ حادٍ بعد الولادة، والنساء من حولها ليس لديهن وسيلة سوى التضرع بالدعاء، وأنا وأخواتي اجتمعنا في زاويةٍ من الغرفة نترقب بأعينٍ بريئة وخائفة. وفي هذه الأثناء حاولت النساء إخراجها في الفناء (الحوي)؛ حيث الهواء النقي، فرفضت وقالت لا تفعلوا هذا حتى يأذن ابن كثير أي زوجها …! نودي على أبي وجاء مسرعًا من عند ضيوفه ممسكًا بالمبخرة بيمينه فوضعها رأسا في الروزنة، في تلك اللحظة فارقت فيها أمي الحياة، وأغمض أبي عينيها بسرعة وأمر بإخراجنا على الفور وهو يكفكف دموعه ثم أدخل يديه في صدره ومزق ثوبه من الحسرة على فراقها. ربما أمي استدعت أبي لتقول له وداعا وتقول لي قلبي معك يا ابنتي من خلال النظرة الأخيرة التي أرسلتها لي…! وفي تلك اللحظة أصبحنا بلا أمٍ، وأصبحت أنا ربة المنزل وأنا لم أبلغ سن الحلم. وطويت صفحة ومر عام وتلته أعوام والحمد لله ربي العالمين”. هذه قصة أمي -رحمها الله- كما سمعتها منها.