لطيفة بنت عبد الله جبر آل إبراهيم
حرم الشيخ عبدا لرحمن بن محمد الموسى
“لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم”
المتنبي
لم أجد لهذه القصة مرجعًا، أو مصدرًا مكتوبًا، سوى روايتين شفهيتين سمعتهما من رجلين ثقتين فوجدتُ أنَّ إحدى الروايتين يكتنفها بعض الغموض والتناقض، لذا رجّحت الأخرى وهي رواية العم الشيخ محمد بن عبدالوهاب الموسى، حفيد الشيخ عبدالرحمن؛ لكونها الأكثر دقةً ووضوحًا. فمن المتوقع أنَّ وقائع هذه الأحداث -التي خَلّفَت وراءها الفراق والحزن من جهة، والأمل والحياة من جهة أخرى- قد جرت أحداثها قبيل قيام الدولة السعودية عام 1315 هـ، في مرحلةٍ ساد فيها الاضطراب والخوف خصوصًا في منطقة أحداث هذه القصة. كما أنني لا أخفي دهشتي بفصولها المثيرة التي جسدت معاني وقيمًا إنسانية رفيعة، وإعجابي أيضًا بجميع شخصياتها التي تنبض بالتضحية والكرم والوفاء، سواء كان الشيخ عبد الله بشجاعته وإصراره أو ابنته لطيفة كريمة النفس واليد. ناهيك عن وفاء الشيخ إبراهيم بن عبد الرحمن بن طوق لصاحبه. كما آمل أن يطّلع عليها أقرباء المعنيين من خلال مدونتي (متعة التذكر) لإزالة أي لبس أو ارتباك في تسلسل أحداث هذه المغامرة المثيرة.
فلربما اختار الشيخ عبد الله بن جبر آل إبراهيم الموتَ واقفًا على قدميه بدلًا من أن يموت راكعًا! وأن يُقدِمَ على ما يخافه بدلاً من أن يعاني من آلامه، فأحيانا يكون الشعور بالخوف أشدُّ ألمًا من الوقوع فيما يخافه. هذا الإنسان المقدام سليل الأسرة الكرام لم يخطر له أن يأتي ذلك اليوم -الذي ينتزعه القدر -من المكان الذي نشأ وترعرع فيه، فلقد وجد نفسه وحيدًا مُطاردًا في إطار تسوية حسابات، بين فريقين متنافسين على السلطة.
تاهت بالشيخ عبد الله بن جبر الدنيا؛ فخيّمت عليه سحبُ الدسائس والمؤامرات، فاضطُر مكرهًا على الرحيل من الرياض، مصطحبًا معه ابنتيه الصغيرتين لطيفة، وأختها سارة. باحثاً لهما عن ملاذٍ آمنٍ، مولّيًا وجهه شطر الأحساء، والشرور تلوح في الأفق من حوله. فمضى قُدمًا غير عابئ بما يخبئه له الزمن، مدركًا أنَّ الطريق –آنذاك- شاق وصعب ومحفوف بالمخاطر، ناهيك عن أنَّ عيونَ الأعداء كانت تقتفي أثره، وترصد خطاه. فمضى يحثّ السير، وهو يَشّم رائحة الموت في كل خطوة يخطوها وفي كل مكانٍ ينزل فيه وأثناء تعاقب الليل والنهار. فلم يبقَ له من أملٍ في الحياة، سوى أن تنجو فلذات كبده وتعيشا حياةً كريمةً كما يجب.
فالشيخ عبد الله ليس رجلاً من سائر الناس، بل صاحب إرادة قوية وحثيثة، لا يُثنيه هول المواقف والأخطار عن خوضِ الصعاب من أجل الحفاظ على كرامته. فبعد جهد جهيد تنفس الصعداء بعد أن ألقى بعصا ترحاله في الأحساء، تعبًا منهكًا وغريب الدار، إلا عن رجل واحد ألا وهو الشيخ إبراهيم بن عبد الرحمن بن طوق، عالم وقاضٍ نجدي – أصله من الدرعية – فلجأ إليه وطلب منه أن يُبقي لطيفة وسارة أمانةً عنده وأن يزوجهما لمن يراه كفواً لهما.
فلم يَمضِ وقتٌ طويل حتى شعر عبد الله بأن أنفاس الغدر قد أصبحت قريبة منه، بل تكاد أن تلفحه من كل صوب، فقرر الرحيل مرةً أخرى، ولكن هذه المرة بدون لطيفة وسارة. فبعد أن اطمأنَّ عليهما لم يعد لديه ما يقدمه لهما سوى الدعاء والدموع، والشعور بالأسى، فغادر في ليلٍ بهيم إلى مصير مجهول.
تزوجت لطيفة من الشيخ عبدالرحمن بن محمد الموسى، وعاشت في البيت الذي ورثه عن أبيه محمد، وهو البيت الذي نسجت فيه كسوة الكعبة عام 1221 هـ وقد ذكر لي الشيخ عبدالرحمن بن عثمان الملا -المؤرخ المعروف- أنه سمع الشيخ أحمد بن محمد الموسى (أبو طارق) يقول : إنه شاهد كتابة فوق (الكمر) في هذا البيت مكتوب عليه “هذا البيت الذي نسجت فيه كسوة الكعبة” كذلك ذكر لي الشيء نفسه كل من الوالد والعم الشيخ محمد بن عبدالوهاب الموسى.
توفي زوجها الشيخ عبد الرحمن، فرفضت الزواج من أحدٍ خارج عائلة الموسى وفاءً منها لزوجها وللعائلة التي عرفت قدرها ومنزلتها. فتزوجت بعده من عبد اللطيف بن عبد الرحمن الموسى ثم عبد العزيز بن عبد اللطيف الموسى، وتوفوا جميعًا عنها، ولم تنجب من أحدٍ منهما. توفيت لطيفة في عام 1994 هـ في الأحساء، وفي نفس البيت. لقد ذكرت لي الوالدة بأنها كانت امرأة جميلة وكريمة وطيبة ومحبة للخير. رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.