السيد تابسن في المستشفى
دخلت السفينةُ وهي راسية على الرصيف في يوم عادي جدا، فقرع الخفير الجرسَ، وأعلنَ عبر مُكبرات الصوت، وصولَ الكابتن. رفع علم الكابتن على السارية، مجرد بروتوكول يُقصد به تسجيل حضور، وليس تعاليًا. الكل كان يؤدي عمله مبتسما، لِمَ لا؛ فالسفينة الصغيرة التي لا يزيد وزنها عن ٧٠٠ طن، ولا يتجاوز تعدادها عن ٧٠ فردًا، تُشبه العائلةَ الكبيرة، يَحتفظ فيها القائد بعلاقة مهنية -مع مرؤوسيه- مبنية على احترام ما لديه من خبرة ومعرفة، وعلى قدرته على توحيد الجهود وتوجيهها بعيدًا عن التسلط. لذا نمط القيادة الأبوية يحظى بفرصةِ نجاحٍ أكبر خصوصًا في السفن الصغيرة.
جلستُ في مكتبي أشرب القهوة، فوجدت بطاقات مرصوصةٍ، جميعها تهنئة بعيد الميلاد، ورأس السنة القريبين. رديت على جميع الرسائل بنفس العبارة (أشكركم وأتمنى أن تستمتعوا بأعيادكم). ثم اطّلعت على تقريرٍ عن حالة استعداد السفينة، الذي يشير بأنَّ العطلَ في جهاز السونار ما يزال قائمًا، وأنَّ جميع التجارب التي أجريت عليه من قبل الشركة الصانعة قد فشلت. لذلك تأخر الاستلام من قبلنا، الأمر الذي استدعى عقد اجتماع حاسم هذا اليوم. ثم تناولتُ تقريرًا آخر، عن الأحوال الجوية المتوقعة للأيام الخمس القادمة: “جو غائم ممطر، رياح شمالية غربية سرعتها من ٢٠ الى ٢٥ عقدة وارتفاع الموج من ٣-٥ أمتار، درجة حرارة الهواء ٩، بينما درجة حرارة الماء ٤ …!”. الفارق الضئيل بين درجة حرارة الهواء والماء أمر غير مستغرب حول الجزر البريطانية، على العكس من الفارق الهائل بينهما في مياه الخليج العربي؛ لذلك يحلو للإنجليز التندر على أجوائهم، كلما واجهوا أمرا غريبا، فيقولون: “هذا غريب كغرابة الجو الإنجليزي…!”
جاء حسين ضابط العمليات؛ ليخبرني بأنَّ موعدَ الاجتماع قد حان. يسود في الاجتماعات التلاعب بالألفاظ، واستخدام الأساليب الملتوية، ذلك الفن الذي أتقنه الإنجليز عبر تاريخهم الطويل، اكتشفته بعد عدة كبوات من الخداع والتمويه، فعندما يقول لك الإنجليزي: “من الممكن أن ننظر في الأمر.. أو.. هذا قابل للنقاش.. أو لا يوجد مانع من بحث المسألة.. أو سوف ندرجه على جدول الاجتماع القادم.. ” في حقيقة الأمر جميع هذه العبارات لا تعني شيئًا، سوى الرفض بصيغة الموافقة. كان في الاجتماع عدةُ ممثلين للشركةِ الصانعة لجهاز السونار، وأيضًا الفريق الاستشاري التابع لنا الذي يقوده رئيس رقباء متقاعد اسمه تابسن. وأيضا العقيد مايكل من وزارة الدفاع البريطانية. قام السيد تابسن من فريقنا الاستشاري، بتقديم إيجاز عن حالة السونار، وأفاد بأنَّ الجهاز لا يعمل طبقًا للمواصفات؛ لذا لا يمكن استلامه في وضعه الحالي. فغضب كل من بيتر -ممثل الشركة- والعقيد مايكل، فرشقاه بكلماتٍ جارحة، بينما أنا وحسين كان موقفنا مساندًا لتابسن، الذي وجدنا في كلامه المنطق السليم، المبني على الخبرة والنزاهة. ثم التفتَ إليَّ العقيدُ مايكل وقال: “كابتن أنا أعترض على كلام تابسن؛ لذا يتوجب عليكم الذهاب إلى اسكتلندا فورًا لإجراء التجارب هناك، حيث المياه الصافية والعميقة، وأنا متأكد أنَّ جهاز السونار سيعمل هناك، ومن يعترض على هذا يتحمل تبعات تأخير استلام الجهاز” فردَّ عليه تابسن قائلا: “الذهاب إلى هناك لا طائل من ورائه، وهو مضيعة للوقت والجهد؛ لأن الجهاز به خلل مصنعيّ، فعلى الشركة البدء فورا في عملِ التطوير اللازم، بدلًا من التوجه إلى اسكتلندا، هذا هو موقفي ولن أتزحزح عنه ولو على جثتي”. انفضّ الاجتماع الذي لم يدم طويلًا في جو مُتوتر، وسط عبارات غاضبة، تصبّ معظمها تجاه تابسن، الذي غادر وهو متضايق من الضغوط التي واجهها.
اتصل عليَّ ضابطٌ سعودي كبيرٌ مساندًا لرأي الشركة، واقترح عليَّ التوجه إلى اسكتلندا، فأصبت بخيبةِ أملٍ، ولكن أيقنتُ بأنَّ جيبه المثقوب تمرّ من خلاله النقود، ككل الثقوب…! ثم جاء الخبر لاحقًا من وزارة الدفاع البريطانية وعن طريق العقيد مايكل بإعفاء تابسن من عمله، بذريعة حرصه الشديد على اكتشاف الأعطال وليس حلها…! فلم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى أُدخِل تابسن على إثرها مستشفى للعلاج بسبب اكتئاب حاد. هذه ضريبة النزاهة وما يرافقها من أذى. عندما زرته في المستشفى قال لي: “كابتن، لقد تعلمت أن أخدم علم بلادي بكل أمانه وإخلاص، ولم أتجاهل نداء الضمير وهمسه، ولو لمرة واحدة طوال مدة خدمتي الطويلة، ولم تخدعني تمويهات العقل يومًا من الأيام، لكنني أصبت –الآن- بخيبة أمل، وأن المبادئ والقيم التي التزمت بها طوال عمري، هي التي قادتني الى أن أنام على هذا الفراش الأبيض، مع ذلك سأظل وفيًا لطريقتي الخاصة. ودّعتُ تابسن وابنه، وأنا حزين متألم لما أصابه.
عُدت إلى السفينة وجلستُ في مكتبي بعد أن أصدرت الأوامر بتجهيز السفينة خلال ٢٤ ساعة، والاستعداد للتوجه الى (آيل اوف سكاي) شمال غرب اسكتلندا حسب طلب الشركة. استقبل الطاقم الأمر باستياء، ولكن الجميع كانوا على علمٍ بظروف الرحلة وملابساتها. اتصل عليَّ تيري مرشد الميناء: ” كابتن، وصلني إشعار بمغادرتكم إلى (ايل اوف سكاي) غدًا”. قلت: “هذا صحيح”. قال: “كن حذرا من البحر الهائج هذه الأيام، ومن المياه الضحلة، والصخور التي في جوانب الممرات الضيقة، خصوصًا في ممر (ساوند اوف جورا) -بالمناسبة هذا الاسم يعني خيبة الأمل باللغة الإسكتلندية…! – كما أنَّ سرعة التيارات المائية في المضائق قد تصل إلى ٨ عقد”. قلتُ: “شكرا تيري، كنتُ هناك قبل عامٍ، وأعرف المنطقة جيدا”. قال: “حسنا، لعلمك مرشد الميناء هناك صديقي اسمه مايك، سوف أوكد عليه؛ ليهتم بكم”. قلتُ: “هذا لطفا منك تيري”. قال: “بالمناسبة يا كابتن، هو رجل لطيف وزوجته جميلة، ولديه ابنتان جميلتان تشبهان أمهما …! قلتُ: ” أنسيت يا تيري بأنني متزوج وعندي أطفال!” قال: “أعرف يا كابتن، ولكني أردتُ أن أخففَ عنكَ وحشةَ المكان، خصوصًا في هذا الفصل من العام. حظا طيبا كابتن، وسنبقى على اتصال” قلت: “وأنت كذلك تيري”.
جاءني اتصال من الوالدة: ” أنا قلبي معاك يا ولدي، عساكم مانتم رايحين لهالديرة المنحوسة (تقصد آيل او سكاي)” قلت: “لا والله يا أمي.. بكره ماشين، ادعي لنا”. قالت: “تركّدوا يا ولدي، الله يحفظكم. تدري أجل، خذ كلم أبوك” قال: “اشلون الأجواء عندكم؟” قلت: “معقولة”. قال: “برد عليكم؟” قلت: “إي والله يا ابوي” فضحك وقال: “تبي نرسل لكم فروات من عندنا”. قلت: “لا يا ابوي ودي أنك ترسل لنا عِصِيْ، فيه أوادم ودّي أبلح ظهورهم (أبلح: مفردة حساوية تعني ضربا مبرحا). فضحك الوالد وقال: “هَوّن عليك يا ولدي، هذي العسكرية وأنت عارفها” ثم ختم المكالمة قائلا: “الله معاك.. وفي أمان الله”.
ثم دخل عليَّ مساعد القائد، الرائد بندر، ومعه أحد الأفراد اسمه مهدي، يريدون التحدث معي على انفراد. بدا بندر منفعلا بينما كان مهدي محبطا.. فقلت للرائد بندر: “ما الأمر.؟” قال: “جاءني مهدي بالأمس يريد إجازة لمدة ثلاثة أيام بحجة ذكرى يوم عاشوراء لدى الشيعة، وأنا رفضت، وذلك لأنَّ السفينة ستبحر اليوم إلى اسكتلندا، كما أنه لا يوجد في النظام عطلة ليوم عاشورا”. قلتُ: “تمام، سمعت قولكما، اسمع يا مهدي؛ طلبك مرفوض. انصرف إلى عملك”. أبقيتُ بندر لأسأله؛ “أخبرني عن سيرة مهدي الذاتية”. قال: “كابتن، هو ممتاز، ومن خيرة الأفراد”. قلتُ: “يا ترى، لو طلب منك إجازة ولم يذكر السبب، هل كنت ستوافق …؟” قال: “احتمال كبير” قلتُ: “إذن لو لم تكن الإجازة ليوم عاشورا كان من الممكن أن توافق …؟” قال: ” بصراحة نعم، ولكن سبب رفضي كونها ليست نظامية” قلتُ: “وهل إجازة الكريسمس أو يوم الأحد –هنا- بالنسبة لنا نظامية …؟” قال: “لا طبعا، ولكن نحن مضطرون؛ لارتباطنا بأيام العمل في بريطانيا”. قلتُ: “ولكن كيف تسمح لنفسك أن تأخذ إجازة عند الضرورة، بينما لا تسمح لمهدي حينما كان مضطرًا …؟” ضحك ثم قال: “جواب صعب “. قلتُ: “الأصعب أن تتخذ قرارا شخصيًا ضد رغبة شخص، لانتمائه المذهبي”. قال: ” لا.. لا.. كابتن أنا لا يمكن أن أُفكر في هذا الشيء” قلتُ: ” إذن تصرّف بما يمليه عليك ضميرك”.
رفعت الحبال وارتفعت الأعلام وأبحرت السفينة، ولم يكن مهدي معنا.