خبر خير يا طير كانك على نجد .. مع شعة النور يا طير طاير !
بعد صلاة العصر من احد الايام اتصلت فاطمة زوجة زيد الثانية تسأل عنه إن كان موجود في بيت حصة، فعجبت حصة عندما لم تجده عندها وقالت لها : لقد خرج من عندنا امس بعد المغرب وقال انه رايح لك، اجل شلون لا هوب عندي ولا عندك ..! وعلى الفور اخبرت منصور واخوته وقالت لهم : قوموا شوفوا وين ابوكم غايبه سماه من امس الله يستر ..! فخرجوا يبحثون عنه في جميع الاماكن التي يرتادها، واتصلوا بالمستشفيات والشرطة ولم يجدوه إلا في ضحى اليوم التالي في مبنى تحت الانشاء ممددا على الاض وقد فارق الحياة إثر نوبة ارتفاع في السكر. كان قد خرج يمشي لعل مستوى السكر ينخفض فتعب وجلس في هذا المكان فوافته المنية. بالطبع حزن جميع الاولاد لفراق والدهم وكذلك زوجتاه واقيم له عزاء حضره الوجهاء من رجال الدولة، كذلك امير الرياض اما الملك فقد قام بتعزيتهم هاتفياً. وبذلك فقد انتهى الفصل الاخير من حياة شاب خرج من الطف صغيراً وحيداً لا يملك شيء، واصبح فيما بعد رجل يحمل اعلا الشهادات من جامعات عالمية، ويملك ثروة طائلة ومكانة اجتماعيه وضعته في الِدرج العلوي من بين الوجهاء.
في مساء اليوم الثالث من العزاء كان ممدوح يجلس في طرف المجلس فلاحظ ان الحضور بات محدوداً فلم يبقى في المكان سوى الاقارب والاصدقاء المقربين، فترك مكانه بخفه وجلس بجانب منصور في صدر المجلس، وقد بات واضحاً بان غيوم الحزن التي كانت مخيمة على المكان في اليوم الاول قد تفككت بل وتلاشت. فهمس في اذن منصور : اذا ودك تراي مواعد الربع في الاستراحة..؟ فابتسم منصور وقال :لا تغصب المشتهي ..! عاد انت بكيفك حنا قدامك و يالله انا ماشي في مان الله واحسن الله عزاكم .. مكث منصور بعد ان غادر الجميع يهوجس فهو الوحيد من بين اخوانه الذي شعر بمرارة الفقد، فكيف يعيش الان وقد فقد الملاذ الامن الذي طالما لازمه وأواه وعاش تحت ظل عصاه، فاصبح الان مثل الحاشي المفرود الذي جف ضرع امه وعليه مواجهة الحياة منفرداً،لقد كان راضياً بحب والده له وان كان الاخير يعبر عن ذلك عن بطريقة لا تخلو من الاذلال والسخريه منه،فكيف له الان ان يبحث عن حمى يلجأ اليه ليحميه من الخوف من النفس ومن كل ما هو حوله. حتى بعد ان تجاوز الثلاثين وصار لديه بيت وزوجة واطفال وحصل عاى ورث من ابيه، مع ذلك ضل القلق والتردد وعدم الثقة بالنفس مسيطرين على حياتة، التي لم يتغير في نمطها شيء، سوى البحث عن ما يعوضه عن فقدان تلك الشرنقة التي كان يرقد بداخلها.
توجه ممدوح الى الاستراحة حسب الموعد مع الشلة، وكعادتهم لا بد من سهرة بعد كل عرس او عزاء، وايضاً في كل يوم خميس واحيانا الاثنين يسميها كسرة الاسبوع. الشلة خليط من الاصدقاء جلهم من اصحاب الكاس وقلة قليلة من رواعي الهبايب، اما هو فتعتريه فترات يهجر الشلة لمدة تصل الى عدة اسابيع، والسبب مسؤلية البيت والاولاد ناهيك عن متابعة الاعمال وتنمية المال، يحاول عبثاً ان يراضي الدنيا لعل الدنيا تراضيه. في بداية تلك السهرة والليل قد بدأ يوغل في الظلام، فاجأه اتصال من العم خلف الذي كان صديق وشريك لوالده، فخفض الموسيقى التي كانت تصدح وطلب من الجميع السكوت وانزوى بعيداً عنهم ورد على المكالمة بعد ان هدأت انفاسه المتلاحقة .. كيفك يا ممدوح: انا طيب وبخير يا عم خلف .. وينك من زمان ما مريتني المكتب: اعذرني يا عم انا مقصر في حقك .. ما بينا حقوق انا في مقام والدك .. انت قريب والا بعيد..؟ لا انا قريب وتحت امرك يا عم .. طيب انا حول بيتك ودي امرك اخذ فنجال قهوة عندك .. يا هلا ومرحبا وابركها ساعه بس عطني ربع ساعه واكون في البيت .. تمام اذا وصلت البيت كلمني انا باخذ لي غرض من اسواق العويس القريبة منك .. خلاص بس اوصل واكلمك. ركب ممدوح السيارة وقال لشلة انا مضطر امشي عندي ضيف وانتوا اخذوا راحتكم كل شيء موجود عندكم يالله مع السلامة .. انطلق باتجاه البيت بسرعه جنونية مسح فيها طبلون السيارة، مع انه كان مزهزه وماخذ له موشين، لكن لهذا الرجل قدر كبير عنده ولازم يوصل البيت بسرعه. دخل البيت وقال لزوجته بسمه تجهز القهوة والشاي والعصير، وجلس ينتظر كمن ينتظر محقق او مفتش يريد استجوابه. دق الجرس وفتح له الباب وقبل جبهتة ووجنتيه، ثم تبادلا عبارات الترحيب والتحايا، فشرع خلف في توجيه اللوم والعتاب عليه بسبب انقطاعه الطويل عنه، جلس خلف ثم ادار رأسه نحوه وقال : وشعلومك واخبارك تراني مبطي عنك ..؟ ابشرك كل شيء على ما تحب بس اسمح لي اجيب القهوة علشان نكمل سواليفنا. ارتباك ممدوح بسبب الرائحة التي تفوح من فمه، عندما سلم عليه جعلت خلف يبني فكرة بأن هذا الشاب يخوض في طريق من الوحل وقد غاصت قدماه فيه. عاد ممدوح ووضع التمر امام خلف وقدم له فنجان قهوة بيد مرتعشة، لاحظ خلف ذلك لكنه آثر صرف النظر، وبات يجول ببصره في المكان وفي يده الفنجال يرشف منه على مهل مبدياً اعجابه بالديكور والوان ورق الجدران كمقدمة لشروع في حديث يقرقع قي صدره. ثم اخذ الفنجان الثاني وشرب منه قليلاً ثم ابعده عن حنكه بتاني ووضعه على الطاوله، واسند ظهره وهو ممدداً ذراعيه على اطراف الكنبه وقال : وشلون الاشغال هالايام..؟ زينة يا عم تحسنت اشوي بعد ما طلع سعر البترول اشوي .. كم تسوى الارض في الخزامى..؟ يمكن 1200 يا عم … لا ماهيب 1200 انت اما خبرك قديم او ان ما لك في العقار، بس شلون يصير ما لك في العقار وابوك الله يرحمه ترك لكم عقارات واجد وعليها القيمة ..! طيب وش الاشغال الي عندك..؟ عندي محل اثاث وفتحت من تالي مطعم .. وليه تركت شغل ابوك في المقاولات والعقار..؟ قلت نغير اشوي وتجرب شغلات جديدة .. بس شغل ابوك كان فيه خير كثير وشلون الواحد يترك الجاده الي تكسّب ويركض ورى شغلات ما يعرفها ويبدأ من جديد..! صادق يا عم بس هذا الي حصل وادعي لنا بالتوفيق .. الله يوفقكم .. ثم تناول خلف الفنجان الثاني وهزه لكن ممدوح قدم له فنجان ثالث حسب العرف، فابتسم خلف واراد ان ان يلطف الجو المحتقن وقال : يقولون فناجيل القهوة ثلاثة، واحد مع الناس والثاني لا باس والثالث يعدّل الراس .. تبسما معاً وبعدها اخذ بيالة شاي تلاها بكأس عصير ثم انسل ممدوح وعاد يحمل المدخن بغية وضع حد لنهاية جلسة الاستجواب، فامسك خلف بالمدخن ووضعه على الطاولة التي امامه من دون ان يتطيب وقال: تو الناس على المدخن، يقولون ما عقب العود قعود، بعدين انا مبطي عنك وما امداني احتسي معك وراك مستعجل..؟ التخم ممدوح مصطنعاً ابتسامة وعيناه ترف من الخجل، فداهمه شعور طالب ضبط هارباً من المدرسة .. لا ابداً الجلسه معك يا عم ماتنمل، بس انا قلت يمكنك انك مشغول وعجّلت بالمدخن .. لا ابداً كيف اصير مشغول وانا الي عازم نفسي عليك ..! تمون يا عم بيتك وحلك،فانكمش فلم يعد امامه من حيلة سوى تحمل مشقة الصمت، ثم استدرك خلف وكسر حاجز الصمت وقال : ابيك تعرف ان مُتع الحياة ماهوب كلها خير ولا المشقة كلها شر.. قالها ثم صمت ينظر الى الارض يبحث عن كلمات كمن يبحث عن شيء سقط في الارض، فاحس بان حبال الفكرة التي يريدها قد افلتت منه، فاستدرك قائلاً: وترى يقول المثل الصاحب ساحب، وفيه منهو اذا طاح في حفرة يبي يسحب غيره معه .. ما فهمت عليك يا عم..؟ لا انت تدري وعارف مغزى كلامي .. ليه انت سامع عني شيء..؟ لا ما سمعت بس انا شفت وعرفت ان الي قدامي ماهوب الي انا خابر، وانا ماني جاي انصحك، وترى ما نَصحك مثل نفسك، والعاقل خصيم نفسه، وهذا بس الي عندي ومثل ما يقولون: ما قل دل وزبدة الهرج نيشان .. تناول خلف المدخن وطلب كسرة عود ثانية ونفخ عليها برفق، حتى تصاعد دخانها الازرق فتنشقه بعد ان طيّب شماغه، ثم انحنى ووضع راحة يديه على ركبتيه ومن دون ان يلتفت الى ممدح و قال: اكرمك الله ورحم الله والديك، ثم فز واقفاً وشد على ذراع ممدوح وقال : شد حيلك .. فودعه وهو يمشي وراءه مطأطأ الرأس حتى خرج من الباب. تسمر ممدوح واقفاً امام الباب حتى اختفى خلف عن الانظار. وقف طويلاً مكتفاً ذراعيه يتأمل في بقايا سكون الليل، يفكر بقلق في فحوى كلام كأنه موجه الى شخص يقف على حافة جبل وهناك من يحاول منعه من السقوط. لكنه لم يعبه حينها لنداء الضمير وهو يدق في ناقوس الخطر، فتعمد جاهداً بان لا يصغي اليه، متشبثاً بتبريرات بائسه، تنفي ما قاله ذلك الرجل..
لم يعود الى الاستراحة وبقي في المنزل مستلقياً على الكنبة يتظاهر بأنه يتابع يرنامج في التلفزيون، دخلت عليه زوجتة بسمه ورأت تقاطيع وجهه بها دوائر من القلق لم تعهدها من قبل. جلست بجانبه فسلمت عليه ورد السلام باقتضاب، مكث فترة طويلة مستعيناً بالصمت لمراجعة الذات محاولا استدعاء رباطة جأشه القوية التي طالما تعكز عليها. بسمة تعرف كل شيء عن ماضي وحاضر زوجها وعن كل ما يحاول ان يغطيه عنها، لكنها عاقلة وصابرة وتحبه كما يحبها .. أطرقت بسمة بجانبه طويلاً وبدا كأنمها جالسان في عزاء، ترددت في ان تفاتحه عن وجوده في المنزل في هذا الوقت الغير معتاد، ثم دلفت متكاسلة وعادت بعد قليل بمكياج خفيف وضفائر شعرها متموجة، مرتديه جلابية تيركواز حرير، لها فتحة واسعة في علا الصدر، تتباطأ في مشيها، محتذيه صندل اسود لماع، وتحمل بين يديها صينية بها كأس ماء بارد وضعتها امامه، بينما هو سارح يستعرض شريط حياتة، فثمة امور عديدة قد سئم منها وعلى رأسها سم الهبايب. ثم تناول كأس الماء وتجرعه في نفس واحد، وابتسم لها بطرف فمه محاولاً طرد الكآبه من على وجهه وقال :مشكور حبيبتي .. فابتسمت له ابتسامة دافئة واقتربت تمسح بيدها على فخذه وقالت : شخبار العم خلف..؟ طيب يسلم عليكم … الله يسلمه ونعم الرجل … بس انت كنت في الاستراحة ورجعت، ليه انت كنت مواعده و نسيت..؟ لا هو كلمني فجأة يقول كان قريب من البيت ووده يمرني .. يعني هو جاي لك في امر ضروري..؟ لا كان عاتب علي لي مبطي ما مريته .. معه حق يا ممدوح كان صديق حميم للوالد الله يرحمه وله حق يشره .. تدري خلني اسوي لك تصبيرة شكلك جايع .. اخذ الجوال وكلم منصور الذي كان مع الشلة في الاستراحة وقال له يعتذر له منهم بسبب ارتباط عائلي، فعرف ان الربع قد سروا الى بيوتهم. عادت بسمة ومعها الخادمة تدفع عربية الاكل فيها طبق سلطة جرحير واخر فيه حبات من السمبوسه وكاس لبن المراعي. انفتحت شهيته وبدأ يأكل وهي ممسكة بشوكة تنقنق معه على خفيف بغية تسليته، ثم التفت اليها وقال: العم خلف ماخذ على خاطره مني .. ليه علشانك ابطيت عنه ما زرته بسيطة مر عليه وسَمّح خاطره يستاهل في مقام ابوك .. كان يأكل و الملعقة ترتعش في يده، كما لاحظت لمعان في عيناه من احتباس الدمع بداخلها، فمسح باصبعه دمعه هطلت على خده .. فأحست به بسمة فأخذت نفس طويل وانحنت قليلاً ثم وضعت مرفقيها على فخذيها فناظرته وقالت: حبيبي لا تحمّل نفسك اكثر مما تطيق، وان كان فيه خلاف بينك وبين العم خلف بينحل ان شاء الله، بس اهم شيء تداري على صحتك ترى ما لنا غيرك في هالدنيا .. خلافي مع نفسي ماهوب مع العم خلف، وكل كلمة قالها لي عجزت انساها او تغيب عن بالي، بقولك باختصار وارجوك لا تسألين اكثر، ترى الموضوع شخصي يتعلق بنمط حياتي، الكلام الي قالها العم خلف صدمني واقتحم خصوصيتي لكن مسكني الجادة الله حق .. ومن لان فصاعداً ما ابي اسمع اكثر. الرجال عداه العيب قال كلام ما احد يقدر يقوله لي غيره .. خلاص يا حبيبي عقلك في راسك وتعرف خلاصك، بعدين انت ما شاء الله عليك ما ينخاف عليك، تعلّم ما تنتعلم، وابشر بسعدك من اليوم وطالع ما حفتح الموضوع معك ولا نتب سامع مني إلا ما يسرك. اسند ظهره وغطس في الكنبه وبدى مستريحاً من ردة فعل بسمة وهو يشاهد نشرة الاحوال الجوية في التلفزيون مبتهجاً بتوقعات هطول امطار الليلة على الرياض. أمسك بمهفه يابانية كانت موضوعه على الطاوله، وصار يفردها وهو يحملق كأنه يتأمل فيها وهو مستريح البال، فنهض واتجه الى الحمام وعندما عاد انتصب واقفاً امام بسمه وقال: خلاص انا قررت الابتعاد عن كل الشلة وافتك من الي بالي بالك..! ابتسمت ابتسامة حرج .. لا تقولين شيء، انتِ فاهمه وانا اعرف انك فاهمه .. ابتسمت ابتسامة عريضة .. طيب ممكن اسألك سؤال تفضلي بس بشرط ماهو عن الي بالي بالك: اوكي طيب تبي تترك كل الشلة حتى خويك منصور..؟ لا بخلي بس منصور .. ايش معنى هو بالذات وانت قلت بتتركهم كلهم..! شوفي اولاً :منصور اقرب واحد لي من بينهم كلهم ثانياً: استطيع التأثير عليه واسحبه لجوي وليس العكس .. فهمت عليك وبعد يورى لي ان منصور طيب ويحبك وهو اصلاً صديقك من الطفولة .. وضع يده على كتفها وقال : تدرين ابي بوسة … مالت بجذعها عنه وضحكت وقالت : ما يخالف بس ماهوب قبل ما اسكر الباب ..!