لا يموت الذيب ولا تفنى الغنم ..
لا يختلف آنذاك بيت زيد في حي الملز الراقي القريب من شارع الاحساء في الرياض عن حالة تلك الشريحة في المجتمع، فلقد هبت رياح غريبة لا يُعرف من اين هي قادمة ولا الى اي اتجاه هي تسير،واصبح الاغراء والرفض شيئان متلازمان في الانفس،فبدأ المجتمع في التخلي عن مظاهر الانفتاح النسبي شيئاً فشيئاً،فتوقف عرض الافلام في الاندية الرياضية،واغلقت محال تأجير اجهزة عرض الافلام،ولم يعد تُرى النساء يرفعن العبايات فوق اوراكهن لتكشف عن الفساتين الزاهية،ولا تُسمع اصوات المغنيات او تُشاهد على الشاشات. كانت البلد على موعد مع مرحلة جديدة تطل برأسها عُرفت فيما بعصر الصحوة،وفي نفس الوقت دخلت البلد في ازمة اقتصادية بسبب انهيار اسعار النفط بشكل حاد. لقد مضى اكثر من عقد من الزمن على قطع مسافة في الفضاء تبلغ ٣٦٨٠٠٠ كيلو متر انتهت بهبوط مركبة ابلو ١١ على سطح القمر ونزول الانسان على ذلك الكوكب الجميل،بينما الناس هنا لتو أفاقوا من الفقر البائس و العوز وبدأوا في التخبط والتلذذ بثروة انشقت من باطن الارض،صدمت ثقافتهم وفتحت الابواب على مصراعيها امام انفتاح ساد فيه المال السهل والسفر بانواعه والابتعاث الى الخارج. اما من زيد واقرانه فكانوا يتشربون الحياة على الطريقة الغربية،بينما حصة ومن على شاكلتها ظلت أميه تقليدية ولكن صار لديها خدم وتعيش في فلة فارهه. والان اصبح لدى زيد مكتب فخم في شارع الضباب واستثمارات متنوعه في الصناعه والعقار وسوق الاسهم. يشرب سيجار كوهيبا ويحتسي الكأس ويسمع بتهوفن،فكان الاباء من هذه الطبقة في المجتمع مشغولون والامهات ايضاً لديهن ما يشغلهن في التسوق وتبادل الزيارات،فحين يخفق الابن في الدراسة فالمسألة لم تكن تعدو عن مجرد توبيخ لحظي تعود المياه الى مجاريها خلال بضع ساعات .. كانت الوظائف بالنسبة لشباب خصوصاً المنتمين الى هذه المنزلة في المجتمع متوفرة ولا يحتاج الشاب إلا الى الحد الادنى من المستوى الدراسي. لذلك لم يكن الحصول على الدرجة العلمية العالية هدفاً لكل من يريد الالتحاق بجامعه او بوظيفة. كما ان باب الابتعاث كان مفتوحاً على مصراعيه خصوصاً بعد ان قفز سعر برميل البترول من 4 الى 35 دولار فتضاعفت اسعار العقار الى ارقام فلكيه. ولكن لم يدم الحال على ماهو عليه فالذهب الاسود لم يعد ذهباً بل ذهب سعره الى القاع في الاسواق العالمية،فصار حينها هو الحديث الدائر بين الغني والفقير على حد سواء. بينما الصحوة فقد كانت لتو خرجت الى الناس بعباءة مطرزة بالزري تُكسّر اشياء وتُجبّر اخرى ولا يُعرف مالذي دُسته بين اكمامها.
في يوم احد من كل اسبوع يحرص زيد على حضور مجلس الدكتور ناصر بن مزيد الذي يسكن في نفس الحي،الدكتور ناصر ينتمي الى أسرة عريقة تقطن الاحساء اشتهرت بالعلم الشرعي ومقربة من الدولة منذ عهد الملك عبدالعزيز.اما هو فقد درس علم فيزياء الكم في الخارج ورجع محاضر في جامعة سعود ثم ترقى الى درجة برفسور بعدها انتقل الى القطاع الحكومي واصبح مستشاراً في عدة وزارات ثم حط برحاله مستشاراً في الديوان الملكي ولفترة طويلة. بعد ان احيل الى التقاعد جعل له مجلس اسبوعي بعد صلاة العشاء في يوم الاحد والتي عُرفت بأحدية الدكتور ناصر. حضر زيد الجلسة مبكراً يريد ان ينفرد بالدكتور قبل ان يأتي أحداً من الحضور،شاهد الدكتور جالساً وحده منهمكاً يُقلّب صفحات كتاب فسلم باشارة بيده وترجى الدكتور ناصر بان لا يكلف نفسه بالقيام لسلام عليه،فبادرة بالمقولة المعتادة …عز الله مقامك .. جلس زيد بحانبه فوضع الدكتور كتاب ملوك العرب لأمين الريحاني على الطاوله،ثم التفت اليه مبتسماً واعاد الترحيب بزيد ومال ربأسه اليه قليلاً واتكأ على طرف الكنبه وقال :وشخباركم يا اهل المال والاعمال..؟ لا تسأل يادكتور الكل طاير في العجه والكل يطرد ورى الفلوس ولاهوب لاقيها وكل من جاب له عاملين سوى له مؤسسة واشتغل في المقاولات وإلا فتح له ورشة او بقالة.حتى فراشين المدارس صاروا على قولهم شريطية عقار والناس الي كانوا خدم صار عندهم خدم ..! هذا شيء طيب يا زيد وش فيها خل الناس تسترزق .. بس وين الرزق بعدين كيف تقول هالكلام يا دكتور..! والله ما عاد فيه ارزاق ولا تنمية حقيقية بالانسان الي هي اهم شيء،بل اصبح المجتمع اتكالي وقد سيطر العامل الاجنبي على سوق العمل على حساب العامل السعودي الذي انتقل الى القطاع العام للعمل في بيروقراطية غير منتجه.ناهيك عن التعليم العشوائي، ترى ما عندنا غير ثلاث جامعات علمية يقابلها ثلاث جامعات دينية،والابتعاث الي كان مفتوح لمن هب ودب الان توقف ..! نحن في اول الطريق وهذه فترة حتمية لا بد منها يا زيد ..إن كانت هذه حتميه فهي بالفعل كارثية، تصور يا دكتور قبل عشرين سنة كان سوق العمل يشبه اي سوق عمل في أي بلد اخر،اما الان فقد تغير كل شيء فالعمالة السعودية التي كانت تمثل 85% صارت الان 5% فقط ..! خلصت كلامك يا زيد..؟ لا لسه عندي كلام واجد بس تفضل ما ابي استحوذ على الحديث .. لا تقلق كل شيء مرسوم ومخطط له .. أكيد تبي تقول لي الخطة الخمسية الي هي مجرد حبر على ورق .. ما علينا ما فيه شيء يبدأ بدون الحبر والورق،لكن معليش عطني مجال اكمل حديثي … آسف على المقاطعة تفضل يا دكتور … اولا: الخطة الخمسية الي قلت عليه حبر على ورق فلم يصنع شيء بالانسان كما صنعته الكلمة المكتوبة،ناهيك ان الامور في هذا البلد تسير وفق خطة غير معلنة من قبل صانع القرار،خطة اكبر مما تتصور حتى اكبر من الخطط الخمسية نفسها،ولا يخطر على بالك بان الامور تسير اعتباطاً .. أكيد يا دكتور انت ادرى مني بحكم قربك من دوائر صناعة القرار … شوف يا زيد الموضوع ببساطة، هذا البلد فقير وشحيح من حيث الموارد وسبل العيش فيه ضيقة للغاية،فلا ماء ولا زراعه او صناعه،فجأة تفجرت ثروة طائلة من تحت الارض لشعب يعيش في حالة فقر مدقع،يعاني من العُسر ويفتقر الى الحد الادنى من الحياة الكريمة،فلو قامت الدولة بتجاهل الواقع المعيشي لدى الناس وبالتركيز على مشاريع تنموية طويلة الاجل وبقيت افواه الناس جيوبهم فارغة لفترة طويلة من الممكن ينفجر الشعب خلالها في اي لحظة. لذا صار بسط نفوذ الاستقرار مقدم على اي شيء اخر،فالسلطة الحكيمة هي التي تنجح في تحقيق الحاجات الانيه لشعب،وإلا ما فائدة العطاء بعد فوت الاوان..! فلو سألت عن حاجة الناس آنذك قبل عشرين عام لقالوا لك نريد مأكل ومسكن وعلاج اما بقية الاشياء فتأتي لاحقاً .. قصدك يا دكتور ان هدف الاستقرار كان مقدماً على التنمية والتعليم..؟ لا تفهمني خطأ انا اتكلم عن الاولويات فلا يمكن تحقيق اي هدف اخر من دون الامن والاستقرار .. اهااا فهمت عليك … الدولة يا زيد تعرف ولديها علم ومعرفة بأهمية تطوير المجتمعات اكثر مني ومنك،لكن الامال وتحقيق الرغبات شيء وحفظ النظام والحكم شيء اخر .. اتوقع ان الخطة الي قلت عليها غير معلنه يا دكتور وسرية للغاية .. لا ابد لا هي سرية ولا شي،لكن اصحاب الخبرة من الممكن ان يستشفون ملامح ومعالم الخطة من خلال البرامج المطروحه .. كأني فهمت منك ان البرامج عبارة عن حملات توعويه اجتماعية ودينيه تحث على الوطنية والولاء لدولة..؟ لا هذا الشيء لا وزن له مثل بقايا العود الكمبودي بعد ان يحترق ويطيّب المكان والثياب،بعدين لا تنسى الدولة لا تريد اطعام الناس بالخطب والشعارات مثل بقية الدول بل إن الهدف الاول والاخير من كل هذه البرامج التي ذكرت هو ان تجد عائدات النفط الهائلة طريقها للوصول الى جيوب هؤلاء المواطنين المعدمين،لكي يأكل الجائع ويشبع الغني لينعم البلد بالاستقرار،فلا تستهين بالطعام والعلاج والملابس،يعني بالعامي هذه البرامج مثل عقال البعير علشان لا يهيج ويتشتت القطيع .. وهل يا دكتور وصلت الاموال الى جيوب الناس بالتساوي.؟ الاموال وصلت الى الناس ليس بالتساوي بل بتفاوت،ناهيك حتى اولادك مهما حاولت ان تكون منصف سوف تجد جيب احدهم اثقل من الاخر .. ممكن تفصل لي اكثر عن تلك البرامج يا دكتور..؟ فجأة نهض الدكتور واقفاً وتقدم بضع خطوات عندما بدأوا رواد الجلسة في التوافد وانشغل بالسلام والترحيب بهم وانقطع الحديث،ثم رجع مكانه و دنق رأسه وهمس في اذنه وتمتم بصوت خافت : للحديث بقية .. صمت زيد في مكانه شارد الذهن،يفكر في حديث الدكتور غير عابه بضجيج السواليف البينية في الجلسة.احس الدكتور ناصر بوقع كلامه على زيد وهو يرمقه بنظرات خاطفة بين كل لحظة واخرى،فانتبه زيد وغير من وضع جلوسه وتظاهر بمتابعة حديث دائر بين شخصين على مسافة ذراع من مكان جلوسة. كان الحوار الدائر حول انهيار اسعار النفط والعجز في الميزانية مع ارتفاع غير مسبوق في الدين العام .. رأى الدكتور ان الحديث في المجلس متفرق فتدخل محاولاَ توحيد النقاش،فتوجه بالسؤال الى احمد الفرحان عن رأيه في الازمة وهو رجل اعمال مرموق خريج جامعة سنت اندرو في اسكتلندا ..؟ فأجاب قائلاً : بصراحة هذه نتيجة عدم الترشيد في الصرف وهدر عائدات النفط التي جاءتنا خلال السبعينيات،مع ذلك لا احد ينكر تنفيذ بعض المشاريع الانشائية مثل مشاريع البنية التحتية،لكنها تعتبر متواضعة بالنسبة الى حجم الواردات التي دخلت ميزانية الدولة في ذلك الوقت،خصوصاً اذا وضعنا في الاعتبار مردودها المتواضع على مستوى انتاجية الفرد وتنمية مهاراته في الصناعه والزراعه وغيرها،فهناك حلقة مفقودة وهي عدم وجود المهنيين الذين يعتبرون في الدول المتقدمة العمود الفقري للاقتصاد،فمن المهم لتحقيق ذلك أن تضغط الدولة على الناس وفي نفس الوقت توجههم مثل مادة الخام التي تُرسل الى المصنع فتوضع على سيور متحركة لكي تُفرَز وتُصقل قبل ان تُصنّع بشكل نهائي ثم تخرج في قوالب مختلفة لتأديه اغراض متعددة. ثم قاطعه شخص مدير عام في وزارة المالية،قيل ان اسمه تركي السفر قصير القامة طوله لا يتعدى كتف اي رجل عادي،وقد بدى وجهه محتقناً وينم عن طاقة مخزنة توشك ان تنفجر وباسلوب متعالي ومتحذلق،فوقف قائلاً : يا اخ احمد ولا يهون صاحب المكان ولا الحضور جميعاً،لكن دعونا نكن منصفين،دولتنا ما قصرت الله يحفظها،فقد انشأت مشاريع كبرى في كل مكان،وأنا بحكم عملي مطلع على الارقام التي صرفت على تلك المشاريع،ما يصير يا جماعه القاء اللوم على الدولة بهذه الطريقة،هذا اجحاف في حقها واللي ما يدري او ناسي اذكره بمشروعات عملاقة،مثل الجبيل وينبع للبتروكيماويات،ومشاريع اخرى لا يسعفني ضيق الوقت لذكرها،جميعها تهدف الى تنمية وتطوير مهارات الانسان،فما يصير يا اخوان فالذي ذكره الاخ احمد حشف وسوء كيل في حق الدولة. ثم تدخل الدكتور ناصر ورد عليه قائلاً : وانا ايضاً عندي بعض التحفظ على رأي الاخ احمد مع اني اتفق معه في معظم ما ذهب اليه ولكن سؤالي له : أفهم من كلامك ان الاستغناء عن العمالة الاجنبية والتركيز على تأهيل الافراد تعتبرها اولوية،ولكن ماذا عن الوقت الطويل الذي سوف نحتاجة لكي يكون لدينا كوادر مؤهله ومنتجة للعمل في المصانع المختلفة..؟ فرد عليه احمد بهدوء: هذه حقيقة لا غبار عليها،تنمية الكوادر البشرية مشوار طويل ولكن تكات عقارب ساعة الزمن لا تنتظر احد،ولا تأخير التنمية تحت اي مسمى او عذر لكي لا يأتي يوم نتمنى فيه لو كان الحاضر هو الماضي،ثم نجلس نتحسر ونشتم الذين تسببوا في ذلك ولكن للاسف حينها لن نجد احدا منهم لكي نحاسبه. فتحفز زيد وبدأ في التركيز اكثر فسؤال الدكتور ناصر استدراجي ويصب بموضوع الحديث الذي دار بينهما … ثم استطرد الدكتور ناصر قائلاً : لكن ماذا عن حاجة المواطن المعيشية في نلك الفترة اي قبل حوالي عشرين عام،عندما كان الناس يعانون من شظف العيش،وكيف يتعلم ويتدرب وينخرط في مشاريع التنمية وهو فقير لا يملك شيء..؟والفت انتباهك ايضاً بأن التدريب وتنمية مهارات الافراد تختص بشريحة محددة من الشعب وهم الشباب،ولكن حينها من سوف يطعم ويكسو كبار السن والاطفال .. على اي حال رفعت الجلسة وفكروا في الاجابة لاحقاً فلم يعد لدينا وقت لسماعها وفزوا على عشاكم حياكم الله … إنقبض قلب زيد فكان متعطشاً لسماع اراء الباقين …