دموع وزفرات
غالبا ما كنت أشاهد الوالد -وأنا طفل- محاطًا بأصدقائه، خصوصا في المناسبات الكبيرة، وأحيانا يأتي أحدهم ويأخذه؛ ليتحدث معه على انفراد.
مشهد يتكرر –دائما- أمامي وكنت أسأل نفسي ما سبب ذلك؟ ولماذا هو بالذات؟ فإما أنهم كانوا يستشيرونه، أو أنهم يفضون إليه ببعض أسرارهم؛ فهو أهل للمشورة من ناحية، وأمين على أسرارهم من ناحية أخرى. والوالد يؤمن إيمانًا قويًا بالخصوصية، وأنَّ للناس خصوصياتهم، التي يجب المحافظة عليها. لم يكن الوالد حينها المتحدث، بل كان في أغلب الأحيان منصتًا، فلربما الناس يأنسون لمن يُنصت إليهم، وهكذا كان والدي يَفرح فرحًا من أعماق قلبه -لا يستطيع إخفاءه- إذا حقق أحدٌ من معارفه نجاحًا في أي مجال. في أحيان كثيرة تجده صديق للأبي وأبنائه؛ مثل العم محمد الموسى، والعم حمد الجبر، وغيرهم، وصديقًا للخال محمد، والخال عبد الرحمن الكثير، على الرغم من الفارقِ الكبير بينهما في السن والمزاج . بل إنَّ صداقته –في بعض الأحوال- هي القاسم المشترك لشخصيات متنافرة، هل هي القدرة على مواءمة مَنْ لا يتوائم؟ ام أنها حالة من السمو الذاتي والترفع عن الخلافات الشخصية؟
نعم إنه في حالة تحليق دائمة عن سفاسف الأمور. له مكانة في قلب كل إنسان يعرفه، وله حضور حميم في كل مجلس يرتاده. منذ الصغر وأنا أتساءل: “لماذا تنهمر الدموع وتعلو الزفرات من إحدى القريبات عندما تقابل الوالد في زيارتها …!” إنها لحظات تجعلنا جميعًا نشعر بالحرج. وقد فهمت-بعد أن كبرت- أن حبها للوالد أكبر من قدرتها على التعبير عنه، ولكن لماذا هذا الحب الكبير ؟ والسؤل الذي يجيب على سؤال لماذا لا يكون هذا الحب لمثل هذا الرجل!
من أقرب الناس للوالد الخال محمد بن أحمد العفالق، الذي له فَنّه في سرد الأحاديث وحبك القصص، لا يُذكر إلا وتُذكر قصته مع الوالد، لقد وقفا يومًا من الأيام أمام بيت الوالد المقابل لمسجد الجبري من بعد صلاة العشاء وحتى أذان الفجر في حديث مستمر لا يقطعه إلا التقاط الأنفاس مع كل سحبة نفس من سيجارة. لم يفترقا إلا بعد أن قطع الوالد الحديث قائلاً للخال: “أليس هذا صوت فلان يؤذن الفجر …؟” عندها تفرقا ولكن من المؤكد حينها أَنْ ليس فقط للحديث بقية، بل بقايا وبقايا … رحمهما الله.