هبايب … أنياب الجمل ما تغطيها شدوقه

أنياب الجَمل ما تغطيها شدوقه …!

كان ممدوح كالعادة سهران مع اصدقائة في قبو البيت في جلسة خاصة محفوفة مع صدقاء المزاج، مندمجين في مزاح وتنكيت وضحك هستيري صاخب وفجأة سمع نداء اخيه الاكبر على غير العادة ومن خلف الباب يناديه بصوت مخنوق … ممدوح … ممدوح … ففز ممدوح وانطلق الى جهة الصوت ولم يعد لاصدقائة الذين استنكروا غيابه الطويل… ويعد طول انتظار اصابهم الملل وباتوا في وجل مترددين بين البقاء في المكان او الانصراف،فليس من الاصول الانصراف وصديقهم صاحب البيت لم يعد بعد. فجلسوا ولم يبرحوا المكان حتى بعد منتصف الليل وفجأة سمعوا حديث جمع من الناس صادر من حديقة المنزل، فخرج احدهم من القبو كالفأر الخائف واقترب منهم وكان فناء الحديقة مظلم ليس به سوى نور اصفر خافت من بعيد، وقد بدى الحزن على وجوه هؤلاء وهم يتمتمون ويترحمون على اشخاص قد توفوا في حادث،وقد لمح احدهم غارق في موجة من البكاء وهو يجفف دموعه بطرف كمه. فرجع فزعاً ونادى على اصحابه قائلاً لهم: يا الله قوموا مشينا في احد متوفي ما ادري من هو ..! مشينا يا جماعة ما لنا قعده في البيت … وتسللوا خلسه من خلف الجموع الغير عابهين بهم،فاندفعوا مهرولين الى الخارج وهم في حالة من الذهول، فانطشوا متفرقين كأنهم قطيع مذعور من صوت الرعد، افاقهم الخبر واراعهم المشهد فطارت نشعتهم وهبطوا من عالم الهلوسة الى الواقع . كان ممدوح قد تلقى الخبر من اخيه الاكبر واتجها الى قسم الطواريء في مستشفي الشميسي بانتظار قدوم اسعاف يحمل جثمانين …

ينتمي ممدوح الى عائلة معروفة اشتهرت بالثراء أم والده عبدالعزيز رجل مكافح اصبح فيما بعد رجل اعمال من الطراز الثقيل، عصامي النشأة مستقيم واجنماعي، ذاع صيته بين قطاع المال والاعمال،وفي نفس الوقت عُرف بالطيبة وحب الناس له بسبب تواضعه وحبه لاعمال الخير. لقد توجع اهله واصدقائة لفقده و فجع الكثيرين بنبأ وفاته في حادث مروري هو وزوجتة…

في منتصف الابعينيات من القرن الماضي وهو في سن مبكر اتجه عبدالعزيز للعمل بين الظهران والجبيل والقيصومة وعرر يتاجر في مواد البناء في هذه المدن التي ازدهرت بعد أن ساق لها الحظ بمرور خط التابلاين قريباً منها، فتحولت عرر المعدمه والخاشعة لمحطة رئيسية لشركات المنفذة لمشروع التابلاين، فاهتزت وربت وصارت تنبض بالحياة.في البدايه كان عبدالعزيز يزود تلك المناطق بالاسمنت والحديد والطوب ثم تحول الى مقاول بناء وحفر وتمهيد طرق.وثقت به الشركات وعُرف لدى ارامكو ،ففي بداية الامر أسندوا له بعض الاعمال الصغيرة والتي سرعانما نمت وتطورت وكبر حجمها واصبح من بين مقاولين التابلاين المعتمدين.

في عرر تعرف عبدالعزيز على شاب اسمه خلف قادم من هجره قريبة من الدوادمي،اهله يعيشون في بيت شعر وليس لديهم سوى قطيع صغير من الماعز الهزيلة.ام والده فقد جاءته فرصة اعتبرها فرصة العمر وهي جندي في الحرس الوطني ورأساً اْلحق بالعمل على حدود اليمن إبان حرب الوديعه وصار يزور اهله كل ثلاث شهور. ام خلف فقد جاء الى عرر وصار يبيع السمن وكذلك الخياش والتنك الفارغة، ويرسل ما يحصل عليه الى امه واخوته.لم يمهل القدر اخاه الاكبر فقُتل بالخطأ اثماء اطلاق أعيرة نارية في الهواء في أمسية ليلة عرس كما هو معتاد لدى جماعتة،فتحول الفرح الى ترح وكالعادة حُسم الامر عن طريق الدية دفعها عاقلة اقارب القاتل الذي قضى بضعة اشهر في السجن ثم اطلق سراحه في شهر رمضان بعفو من الملك. فاعطته امه نصيبه من الديه الذي وزع بينهم،ففتح له دكان يبيع فيه السمن ورز التمن والقهوة على اهل عرر والمسافرين على خط الشمال او كما كان يسمى خط التابلاين. تعرف عبدالعزيز كان من بين الزبائن الدائمين لخلف وصار يميل الى مجالستة كلما سنحت له فلرصة بين عمل واخر،ومع الايام عرف فيه رجولة وشهامة اصيلة واحب فيه بره في لاهله وكفاحه الدؤوب في عمله على الرغم من انه امي لا يقرأ ولا يكتب فنشأت صداقة بينهما.

في عام 1950 عندما اوشك مشروع التابلاين على الانتهاء بدأت الشركات في عمل مزاد لبيع المعدات استعداداً لرحيل من عرر والتي كانت في معظمها معدات في حالة ممتازة مقارنة بما كان يملكه البعض من الناس في ذلك الوقت.حضر كل من عبدالعزيز وخلف المزاد وكان واضحاً من ان الشركات تريد الخلاص من تلك المعدات يثمن بخس،فاشترى خلف على قد فلوسه وانيت (دامنتي) موديل 44 له صندوق مسور بالخشب ام عبدالعزيز فقد اشترى العديد من السيارات والحديد السكراب والمواصير والرافعات الصغيرة ثم اتجه لبيعها في الرياض.

خلف من ابناء البادية الاقحاح وينتمي الى قبيلة عتيبة المشهورة،مديد القامة ذو سمات ذكية تنم عن حدة في الطبع،تعلو وجنتاه سمره من اثار الشمس،انفه مركوز وممتليء وعيناه واسعتان تزينها رموش سوداء طويلة،رزين ويتكلم بهدوء وثقة،هيئته بها هيبة تستدعي الاحترام،قوي الشكيمة مع ذلك به رباطة جأش فلم يسبق له ان مد يده على احد، تساعده في ذلك نظرات حادة تكفي لردع اي ردود افعال هوجاء.

بعد رحيل الشركات فقدت عرر ذلك الزخم وخفت البيع والشراء فيها،فقرر اغلاق الدكان والانتقال الى حفر الباطن وفتح له دكان هناك وبدأ يزاول نفس النشاط.احياناً كان يغلق الدكان لايام اذا وجد بضاعه او اشخاص عبريه يحملهم الى الدمام او الرياض.في احد الايام وجد ركاب يريدون السفر الى الرياض فاخذهم الى الرياض ومن ثم اتجه هو الى الدوادمي فلم يرى اهله منذ عام تقريباً. عندما وصل هناك فرحت به امه واخوته الثلاثة فرحة القادم من سفر بعيد،وفي نفس الوقت صدم بخبر وفاة والدة في حرب الوديعة.فقرر حينها ان تنتقل عائلتة الى الرياض،فباع بيت الشعر والغنم وتوجه معهم الى الرياض،فاقاموا عند احد أقربائه بضعة ايام ثم استأجر بيتاً متواضعاً في منفوحة وسجل اخوتة في المدرسة. ثم جمع اخوته وحثهم على التعلم وبأن لا شيء سوف يخرجنا من هذا العوز والفاقة سوى التعليم وقال لهم : اسمعوا انا ما اعرف القراءة والكتابة ولكني تعلمت اللغة الانجليزية من خلال تعاملي مع الامريكان في عرر واستفدت من ذلك في طلب الرزق وفي البيع والشراء،فعليكم بالاهتمام بالتعليم وبتعلم الانجليزي.

ذهب خلف الى سوق مقيبرة لشراء بعض المقاضي وفي السوف صدفةً شاهد صديقة عبدالعزيز في دكان يبيع ملابس عمال فتعانقا بحرارة وتبادلا عبارات الترحيب ثم جلسا في عتبة الدكان يعيدون ذكريات عرر. ثم سأله عبد العزيز : وش عندك في الرياض ؟ عندي سلامتك بس نقلت الاهل الى الرياض بعد وفاة الوالد في حرب الوديعة … لا حول ولا قوة إلا بالله عظم اجرك … جزاك الله خير … طيب وش ناوي تسوي ؟ ابا اجلس كم يوم في الرياض حتى اتطمئن على وضع الاهل وبعدها يمكن اشري بضاعه من الرياض واسواقها في الحفر والدير الي حولها… الله يرزقك وتستاهل كل خير يا خلف… وانت وش الدنيا بك ؟ انا بعد ما رجعت من عرر بعت البضاعه الي شريتها من الحراج وكسبت فيها مكسب طيب ورجعت للمقاولات وترى بعد ما حكم فيصل الاشغال صارت قوية في الرياض وانصحك تترزق الله هنا ام عرر والحفر خلاص قد شربت مروقها. امسك عبدالعزيز بيد خلف ونهضا من المكان فبديهما حديث لا يريدان ان يسمعه صاحب الدكان،فاطلقا رجليهما في السوق بغية الاسهاب قي السواليف. ثم التفت عبدالعزيز قائلا: انا عندي محل ومكتب في شارع الريل بتلقى عليه لوحة مكتوب عليها مؤسسة شمس للمقاولات لازم تمرني ابي اشوفك باقي عندي لك سواليف يمكن يكون فيها خير … طيب ابشر عطني كم يوم وامرك ان شاء الله … ثم وضع عبدالعزي يده على كتف خلف وقال :تكفى اذا انت بحاجة شيء لا تتردد … مشكور ابشرك الحمد الله مستورة وجعلك ذخر ثم افترقا …

في ضحى اليوم التالي ذهب خلف الى مكتب عبدالعزيز فوجد عنده رجلاً جالس امامه في المكتب،يبدو وكأنه نصف بدوي، طلق اللسان له صوت عالي يلعلع وبلهجة اهل الحوطه،ثيابه مكوية وشماغه منشا وعقاله جبر وله سكسوكة وشارب عريض وبطن كبير تبين فيما بعد بأنه وثيق الصلة بالامراء وتجار العقار. تبادلا التاحيا فعرف الرجل بنفسه قائلاً: ابو مسفر الله يحيك … رحب عبدالعزيز بخلف واجلسه مقابلاً لابو مسفر الذي سكت تاركاً مجال الحديث لعبدالعزيز وصديقه …فجأة قام ابو مسفر وقال: انا ابي امشي هالحين ونحتسي في الماضوع بعدين قالها بلهجته … اجلس يا ابو مسفر وينك رايح،كمل سواليفك ما فيه إلا خلف وتراه شريكي ..! عاد وجلس وقال : اجل اسمع يوم الله جابك انت وشريكك عندي ارض مساحتها مليون متر مربع في شرق الرياض ووحدةٍ ثانية اكبر منها بشوي في شمال الرياض والارضين حقت امير وانا وزيرة وهو موكلني عليها والارضين معروضتين للبيع اذا لكم شف علموني وانا حاضر اجيبها لكم بسعر يحبه قلبك … جاء اتصال فرفع عبدالعزيز سماعة الهاتف وتعمد انهاء المكالمة بسرعة ثم قال : تراي ما ضيفتكم خلوني اقهويكم فتناول ترمس القهوة من سلة بلاستك موجودة عنده في المكتب،وبعد ثلاثة فناجيل قدم لهم الشاي ثم استمر ابو مسفر في الحديث عن فرص وصفقات كلها تدور حول اراضي ينسب ملكيتها الى امراء وخلف يتفحص في كلامه متعمد ان لا يظهر اهتمام. ام عبدالعزيز فقد جعل فكه في راحة يده واسند كوعه عل الطاوله يراقب الحديث بنوع من الكسل،فلما أحس بأن حديثه قد طال قال : شكلي طولت عليكم في الكلام لكن فكروا في الموضوع وعطوني خبر … التفت عبدالعزيز الى خلف قائلا:ها يا خلف تبي تسأل عن شي قبل ما يمشي الرجال ..؟ لا وشلون ابا اسأل وانا ما شفت ارض ولا صك ..! فتحفز ابو مسفر وتقدم قليلاً وبدى كأنه جالس على طرف الكرسي وقال: اسمع يا اللحية الغانمة وزين انك سألت عن مكان الارض وعن الصك، ام مكان الارض سهل ومقدور عليه في اي وقت تقدر تشوفها وتوقف عليها، ام الصك ترى ما فيه إلا وثيقة تعرف الامراء عندهم اراضي كثيرة بس كلها وثائق واصلية وانت بعدين تقدر تطلع صك بموجب الوثيقة … يعني تبي تبيعني وثيقة وتفبض الدراهم وانا وحظي ان جادت وإلا خابت ..! لا ان شاء الله ما تخيب بس ترى هذا الي ماشي هالايام عنديانا وعند غيري قد بعنا وثائق وطلعوا اصحابها عليها صكوك وكسبوا منها ملايين لكن تخبر يبي لك تدبر عمرك من كاتب العدل والبلدية وما دام شريكك عبدالعزيز ما عليك خوف تدخل عبدالعزيز وقال : خلاص ما قصرت يا ابو مسفر وان كان فيه نصيب ابا ازهم عليك … انصرف ابو مسفر … ثم التفت خلف قائلاً:معليش يا عبدالعزيز يمكن كلامي مع الرجال ضايقك وسبب لك احراج مع خويك بس اقول لك بصراحه انا ما ارتحت لرجال واحس الشغلة فيها نصب واحتيال ورشاوي هذا اذا ماكان كلامه محض اقاويل وترى الكلام سهل ما يكلف الناس شيء … لا لا تشيل هم لا هو خويي ولا شيء واول مرة اقابله جاني عن طريق واحد من اقاربي وانا تراي رجال مقاول وراعي بيع وشراء ومالي في شغلة السمسرة وتلبيس الطواقي،لكن خلنا من ابو مسفر وصفقاته المشبوه انا عندي لك راي: انا عيالي صغار واعمالي توسعت بين مقاولات وبيع معدات ونقل واحتاج لواحد يساعدني وكل شيء بحقه وشرايك تشتغل معي ..؟ وشلون اشتغل مع وش ازين ؟ تستلم قطاع بيع النقل نجرب بعض سنة براتب واذا الله وفق بعد سنة تصير شريك بالربع في قطاع النقل وشاور نفسك اذا كان فيه نصيب نكتب الاتفاقية ونتوكل على الله… والله يا عبدالعزيز الي تسويه ذا كثير في حقي وانا خجلان منك ومن زود كرمك … لا يا اخوي لا تخجل ولا شيء وهذا ما هو كرم مني لو انا ماني عارف انك رجل كفو وبستفيد منك ما عطيتك هذا العرض وهذي شراكة مصلحة ما احد منا له منة على الثاني … طيب فهمت عليك بس عطني كم يوم اجلس مع امي واخذ بخاطرها بعد وفاة ابوي وبعد اتأكد ان اخواني مواظبين على الدراسة وارجع لك … سم الي تشوفه فترفرقا …

بعد عدة اتصالات والعديد من المحاولات لتقصي حقائق الامر اكتشف عبدالعزيز لاحقاً بأن تلك الاراضي في الاصل مسلوبة من أملاك الدولة عن طريق وثائق مزورة او ملفقة ييشترك في عملية النهب اشخاص مثل ابو مسفر ومن هم على شاكلتها وأمراء وكتاب عدل وقضاة ورؤساء بلديات وموضفين من عدة جهات… عندما علم خلف بهذا الامر تعجب وقال: يا عبدالعزيز إن الشعب يمر بمنعطف تاريخي وتحول او بالاحرى انحراف في موازين القيم التي التي درج عليها منذ القدم،فكيف لسعودي ان يسرق ويكذب ويزور وهو الذي نشأ أب عن جد على النزاهه والامانة وأن خلاف ذلك عيب وعار ولا يحدث إلا فيما ندر… اين ذهبت الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر والصوم الذي يزكي النفس ويطهرها والزكاة التي تبارك في المال وتنميه ..! إن هذا الامر المعيب منقصة ودخيل على مجتمعنا وانا سوف أنأى بنفسي عن هذا كله … وانا يا خلف لن ادنس الشرف والمكانة التي حظيت بها عائلتي على مر العصور مقابل اي ثمن.

يتمتع ممدوح بمعدل ذكاء عالي ويتصرف بنباهه بشكل تلقائي، تلحظ في عينيه بريق حاد من العبث والدهاء،الخاطرة تأتي اليه صدفه سرعان ما تتحول الى فكرة قابلة لتنفيذ، سريع التعلم وباتقان،إبتدأً من الطبخ والسيارات الى ثقافة السفر وهواية الطيران… هو بالاحرى اشبه بشخص يحمل شنطة بداخلها مجموعة من المواهب يفتحها متى ما دعت الحاجة إليها،يُشاكس ويُشاغب في البلوت حتى يكسب،يُراوغ على طاولة البلاك جاك او الروليت ويربح،يُحاجج ويُحجر لخصمه،لديه حس دعابه ومهارة يدوية من الممكن ان يقنعك بأن الذي تشربه قهوة بيضاء وليس ماء ..!حتى دروب الهبايب التي عرفها عن طريق منصور صار بارعاً في معرفة الاصناف وطرق الحصول عليها. مع ذلك فهو صاحب ارادة قوية يرسم له حدود لكل شيء فاحياناً يهب في الهبايب لكن يتوقف عنها متى ما اراد.هو ليس من النوع الذي من الممكن ان يطرأ على حياته حالة من التغيير الجذري ليتحول بين عشية وضحاها من راعي كيف الى حمامة مسجد ..! يؤدي الواجبات الدينية في رمضان ويصلي الجمعه.تزوج في سن مبكر وصار قريب من عائلته وحريص عليها،لكن تعتريه احياناً ولفترات متباعدة شطحات ينغمس فيها في ضرب الزقارة وخيوط الكوك.

كانت بيروت بالنسبة لممدوح محطةً للهو ومرتعاً لكل شيء يبحث عنه،فقرر ذات يوم السفر فلم يجد له رفيق ولا يريد السفر منفرداً مع العلم ان لدبه شيكة من المعارف في بيروت.قبل سفره بيومين جاءه اتصال من منصور بعد غياب متقطع كان اخر اتصال بينهما قبل شهرين. تلقى المكالمة وتعمد اطالتها مفسحاً مجال الحديث لمنصور،محاولا أن لا يقاطعه بل كلما احس بأنه يريد انهاء المكالمه كوّر له لقمه وقذفها في فمه لكي يسترسل،فباتت السواليف مر ترقا ومر تنزل وهو مستمر يفضفض وفجأة قال له: والله اني ضايق صدري بالحيل … بس الله يتوب علي، رجعت لتدخين وتهاونت في اوقات اداء الصلاوات وخففت اللحية واسبلت الثوب خلافاً لسنة … لكن الله المستعان ! صحيح يا منصور بس لاتنسى انك جهادت في سبيل الله وأصبت وتبرعت بالغالي والنفيس ولا احد منا قدم في سبيل الله مثقال ثرة مما قدمت … وترى طبيعة الانسان يعيش حالة من التذبذب والايمان يصعد وينزل …ولكن وش الفايدة هالحين هذا انا صرت بعيد كل البعد عن ما كنت عليه … كلامك على متمه وانت قمت بواجبك لما كان الجهاد قائم ام الان فقد تحررت افغانستان والجهاد اصبح من الماضي … والله اني يا منصور ما اعرف احد عنده غيرة وحمية على الدين مثلك  … الحميّة وحدها ما ترفع درجاتك عند الخالق والغيرة لا تكفي اهم شيء العمل … وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون … صدق الله العظيم … لكن يا منصور الله سبحانه وتعالا يقول : لا يكلف الله نفساً إلا وسعها …يعني لا افراط ولا تفريط الوسطية زينة يا صاحبي … تقول لي الوسطية طيب علمني وشي الوسطية ..؟ غريبه انك ما تعرف الوسطية وانت رجل ملتزم ومجاهد في سبيل الله..! الوسطية كما قال الله تعالى :وكذلك جعلناكم امةً وسطا … لا تفكرني ساذج انا اعرف الايه وترى انت الي فاهمها خطأ تفكر ان الوسطية هي التفريط في جنب الله وبعدين تبيني اصير نص كم لا كذا ولا كذا،اسكت يا ممدوح بس اسكت لا تتلاعب بكتاب الله وكمل الايه … لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة … لا تلف وتدور انا فاهمك تبي تلحس عقلي وتسحبني لجوك انا ماني غبي،انت خبز يدي واعرف حركاتك … خلاص يا اخوي منصور ما فيه داعي لهذا الكلام وكلامك صحيح وانت على حق وتفهم في الدين اكثر مني،بعدين انا شايف انك انت الي نفسك زهفت على الدشرة بس تبي تحطني سبب مثل بيز الدله، بالعكس انا الي اعرفك زين وانت خلك على ما انت عليه والله يهني سعيد بسعيدة ولا تشغلني بمشاكلك،بعدين انا ما دورت عليك انت الي اتصلت فيني تشتكي لي من حالة التفريط والتهاون الي تمر فيها،انا مالي دخل في قريح طولت ثوبك او قصرته صليت او ما صليت … لكن اذا تبي تسحب علي وتقطع العلاقة عادي عندي والي ما يبيك لا تبيه … صمت منصور برهه محاولاً تدارك المطب الخطير الذي وقع فيه مع أعز صديق له ثم قال : شرايك نتعوذ من الشيطان وحقك علي وانا اسف والله ما كان قصدي بس تخبرني احياناً انفعل في النقاش خصوصاً في القضايا الدينية قالها وقد خنقته العبرة …ثم سكتا قليلاً وقال ممدوح : على كل حال يصير بينا تواصل بعدين وفي امان الله وانهى المكالمة قبل ان يغلق الخط منصور الذي حاول الاتصال عليه عدة مرات ولم يرد ثم ارسل له رسالة نصية في وقت متأخر من الليل  (حبيبي ممدوح انا اسف وغلطان ولا تواخذني وانت عارف اني اعيش حالة نفسية صعبة هاليومين والله لو اسحب على اخواني واهلي ما اسحب عليك انت ارجو ك لا تزعل وتكفى رد علي اذا كلمتك ترى حنا اكثر من اخوان ولا يجي من القلب علة … تصبح على خير يالغالي)

تلقى ممدوح الرسالة وهو سهران وعندما استيقظ في الظهر من اليوم التالي وجد في جواله اربع مكالمات لم يُرد عليها وايضاً قرأ الرسالة ووجد رسالة اخرى (وش عندك اليوم ودي اشوفك؟) رد عليه ممدوح (ابد ما حصل إلا الخير انا اليوم طالع الاستراحة على الساعه تمانية) ولم يقل له تعال الله يحييك تركها هكذا دعوة مبهمة .كان ممدوح قد تكهن بذلك وحدسه لا يخيب فقد كان يترقب تلك اللحظة كمن يراقب صفقة على وشك الحسم..! بعد المغرب اتصل منصور فرد عليه: هلا وسهلا فقاطعه قائلاً : عيّن خير يا ابن الحلال وهونها تهون وعند الله سعه وش برامجك ؟ ابد مثل ما قلت لك انا طالع الاستراحة بعد اشوي وبعد بكرة رايح لبيروت بجلس فيها كم يوم … يا ليت اقدر اخاويك بس قلبي ماهوب مطاوعيني … تقصد متردد وإلا ما تبي ..؟ هههه اي متردد إلا خائف بس احاول امنع نفسي وانت تعرفني زلوق اذا طحت في الشيء احلتوه حلت … على العموم اكرام النفس هواها انا بكون في الاستراحة اذا حبيت تمرني الله يحيك وإن ما قدرت تراك معذور … طيب بيجي يمك احد ..؟ اذا انت بتجي ماني قايل لاحد ما فيه ألا انا وانت وترى ماني جالس بالحالي فاذا جاء المغرب وما اكدت لي ابا اقول لبعض الربع يجوني وانت بكيفك … خلاص ابي اعطيك خبر قبل المغرب اذا كنت ابي اجي وإلا لا … تعمد ممدوح انهاء المكالمة بسرعة.

جلس ممدوح  لوحده في الاستراحة فقد اصبحت الساعة التاسعه مساءً ولم يتصل منصور، كذلك اتصل ببعض اصحابه ولم يرد على اتصاله احداً منهم.تعمد عدم الاتصال بمنصور فاراد ان يُشعره بعدم الاكثراث لعله يلين ويقترب ويسايره اكثر.فجأة شاهد انوار سيارة قادمة الى الاستراحة فاخذ يراقب السيارة لعل هذا احد اصحابه واذا بمنصور يخرج من السيارة مقبلاً باريحيته وابتسامتة المعهودة، فتعانقا وقضيا تلك الليلة اقل ما يمكن ان يقال عنها حمراء بجميع المقاييس … ناما فبيل الفجر في الاستراحة واستيقضا بعد الظهر ثم ذهب كل منهما الى بيتة. بعد المغرب ارسل ممدوح الى منصور هذه الرسالة مع السائق ( تجد مع هذه الرسالة تذكرة الى بيروت غداً الرابعه عصراً  وانت شاور نفسك فإن عزمت ترى الموعد في المطار… ولو ما عزمت حصل خير ولا تخاف ترى مبلغ التذكرة قابل للارجاع ويسلم راسك ) دخل ممدوح صالة االمغادرة يسحب الشنطة وهو يتلفت فلم يجد اي أثر لصاحبه فتوجه الى كونتر خطوط المديل ايست وادخل العفش واخذ بطاقة صعود الطائرة وبعد ان ختم الجواز توجه الى بوابة السفر، واذا بصاحبه الذي قد سبقه الى المطار وسحب بطاقة صعود الطائرة وجلس ينتظره على احدى الكراسي عند بوابة السفر.جلس بجانبه من دون سلام وتبادلا ابتسامات عريضة ثم نظرا الى بعضهما وغرقا في موجة عالية التردد من الضحك ثم دخلا في نوبة عناق وتبويس …عندها تنفس ممدوح الصعداء بعد ان تأكد له بان الصفقة قد تمت بنجاح … وانطلقا معاً وركبا الطائرة …

بيروت كانت بالنسبة لممدوح اصداف في محارة يلتقط منها كيفما يشاء ..! فلقد بسط نفوذه هناك،لم لا فله حضور في كل زاوية هناك ويمسك بخيوط متفرقة مع شبكة من العملاء كل في اختصاصة، وهم لا يتاونون في تقديم شتى انواع الخدمات المباحة منها والغير مباحة،حتى اذا كان ممدوح في الرياض يتواصل معهم ويرسل لهم الهدايا والتي في اغلبها نقدية، كنوع من البخ او كما يقول (سمكرة) ناهيك بانه ليس من السهل الضحك على ممدوح ممهما كانت جنسية الطرف الاخر،صحيح بأنه كريم في الهدايا ولكن ليست من دون مقابل من الخدمات وفك الازمات وحل الصعاب الممكن منها والغير ممكن،مبدأهُ في التعامل معهم  (WIFM (what’s in it for me … ايش بيطلع لي منها ..! ام منصور فقد التم الشمل الان في بيروت ووجد ضالته في صديق طفوله حميم يقوم بعمل جميع الترتيبات له من الالف الى الياء… من ترتيب السهرات وحجز الفنادق والطيران حتى قائمة الطعام في المطاعم يقرأها له ويختار الاصناف التي تناسبه. انهارت الحصون المنيعه التي بناها منصور خلال العشر سنوات الماضية وكانت بيروت بالنسبة له اول سفره وفي نفس الوقت اول شطحه، خلع فيها ثياب الماضي في نفس واحد.ثم انفرط العقد وذاب سلك الحديد وتعددت الاسفار من دبي الى القاهرة وبانكوك وهونكونق …