أحمد الموسى
قال إبراهيم الصولي:
بطيء عنك ما استغنيت عنه وطَلاّع عليكَ مع الخطوبِ
بين الحين والآخر يطوف عليهما أحمد وأحياناً يُعرْف (بالمهندس أحمد) ابن عم وصديق حميم لهما، يصفه عبد الله معبرا على طريقته ” إن أحمد أبرد على الكبد من ماء المطر على الأرض” وهو يُشكّل العَمود الرابع في جلسة الحلال مع عبد الله وعلي وعبد الوهاب. المحبة والكرم والفضائل والأنس، هي أمورٌ جمعت بين هؤلاء الرجال. وهو يزورهم على الرغم من الأعمال التي تأخذ جلّ وقتَه، فهو قد انتُخب نائبًا لرئيس المجلس البلدي؛ بعد أن فاز بنتيجة فارقة. إلا أن هذه الأعمال التي نجح فيها نجاحا باهرا؛ لم تمنعه من الذهاب لمتنفّسه في جلسة الحلال، فَسِرُّ شخصية أحمد في بساطتها وفي ذكاء خاطره، فلسانه عفيف يقفز من فوق اللغط بلباقةٍ وبكل رشاقة.
هَبّت عاصفة رملية ذات يوم، ولم يكن عند الحلال سوى الأخويْن عبد الله وعبد الوهاب، ومن المستبعد أن يأتي إليهم أحد في هذه الأجواء، وفجأة أقبل عليهم أحمد، فاستغربوا مجيئه؛ فلما سألوه عن السبب؟ قال: من المؤكد أنكم ستحتاجون إلى من يؤانسكم في هذه الأجواء، فأتيتُ إليكم! حقا؛ لقد أثبت أنَّ الصداقة يَبينُ معدنها في الظروف القاسية، وليس تحت يُسر الحياة ووهجها.. فهو أشد الناس سعادة، حين يسعى في خدمة مَن حوله، ومساعدة المحتاجين، في أي وقت وتحت أي ظرف.
في الصغر كان يُدعى “أحمد بن حنبل”؛ كرمزٍ للتشدد، وهو في الحقيقة رمز لكن في الطيبة والتسامح. فقبل اندلاع ما يسمى بالصحوة، وأثناء الموجه التحررية التي اجتاحت العالم في الستينات وتلقفنا صداها عبر المسلسلات المصرية، كان أحمد هو الملتزم الوحيد بيننا، حتى إن أهالينا يَطمئنون حين نقول لهم: “نحن بصحبة أحمد. كان يصلي في المسجد، ويحفظ الأحاديث والروايات التاريخية، رأسه مثقل بالأحلام التي تُعيد الناس إلى دينهم؛ حيث قلَّ اهتمام كثير من الشباب به، فلم يكن يقصد المساجد –آنذاك- سوى كبار السن، وانكمشت عبايات النساء من أعلى ومن أسفل…! فتكشف عن أذرع شبه عارية ومؤخرات بارزة، وباتت المحجبات يُعرفن بالأسماء من ندرتهن، في وقت بلغت فيه الأريحيَّة الدينية إلى أن تخلع النساء الحجاب أمام القريب؛ بحجة أنه ليس أجنبيًا…! وقد اعتدنا أن نصعد إلى سطوح المنازل؛ لننظر إلى النساء في الأعراس بكامل زينتهن، ولا نواجه برفض شديد من قِبلهنَّ، بينما أحمد يقف لنا بالمرصاد، دون استخدام عنف، بل بالتوجيه، وقد يقسو قليلا.
جاءت الصحوة بتبعاتها، فوقف أحمد منها موقف المعجب الحذر، يُسْعفه في ذلك دبيبُ الرشد الذي كان يسري في عروقه. إنَّ القربَ من أحمد فيه تهذيب للأخلاق وترسيخ لمعاني الصداقة، يقول الفيلسوف مسكويه: “الصديق شخص آخر هو أنت” كذلك هو أحمد. فلقد جاء عليه حِيْنٌ من الدهر، انغلب فيه مرةً، وغلبَ مَرّاتٍ أخرى، يتغذى من الأحداث الجارية، والواقع اليومي بقدر ما يتغذّى من الكتب، فكلما تقدم به العمر تزايدت عليه اعتداءات الدهر والبشر بينما هو يزداد لمعانًا. حاز على درجة الدكتوراه في تخصص علمي دقيق وقد تجاوز الخمسين، فأثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أنَّ الإنسانَ ينضج ويصنع نفسه بالصراع ضد التحديات. بل إنَّ ما يزيد إعجابي بأحمد هو نكران الذات، وأيضًا الفهم العميق لأدب الاختلاف، فإذا اختلف مع أحد من الناس، يحاول أن يضع نفسه مكان الخصم، وهذا أمر لا تجده إلا في القلة من الناس.
ورث أيضًا من والده فن التفاوض في حل القضايا الحساسة التي استعصت على غيره، فقبل أن يدخل في المشكلة يسلك ممرًا هادئًا حتى يتغلغل في صلب الموضوع، ثم يبدأ في التفاوض بالاتكاء على آراء ليّنه كأنّها وسائد ناعمة، مبتعدًا عن الممرات الخطرة، يهدهد الطرف المتصلّب؛ بالمنطق –أولا- وبالدلائل المادية –ثانيا- إن لزمَ الأمر ، ويُغَلِّف كُلَّ هذا بفكاهةٍ محتشمة، كأنه يُحاول تبريد المنطقة المحيطة بالخلاف، ثم يبدأ في إغلاق منافذ الاختلاف بأريحية وإحكام، وبالتالي يحكم الطوق على العضو الملتهب ثم يعزله تماما عن دائرة الحل .
أحمد مهندس معماري، ولكن ليس كأيّ مهندسٍ، قد يقول لك مهندس: “إنك لا تستطيع إضافة طابق فوق بيتك بسبب ضعف القواعد والأعمدة” بينما يقول لك أحمد: “إنَّ هذا ممكن”، فيكون الحق معه…! فعلم الهندسة -كما يراه-ليس مجرد حسابات، ونظريات محفوظة في مخزن معلومات، بل فن وتحليل علمي مبني على المشاهدة والتجربة، فتجد أنَّ أعقدَ الأمور في نظر غيره، تنحلُّ عنده في ثوانٍ، يُقدم الحلّ بدردشةٍ خالية من المصطلحات الهندسية المعقدة، وبلياقة ذهنية تكفي لحل أي مشكلة مهما كبرت، إذ من الممكن أن يقدم استشارة في إقامة جدار صغير لعريش في النخل، وفي الوقت نفسه يُعطي حلولا جذرية لمشاريع عملاقة، كما جرى في الأحساء. إنَّ خياله العلمي، يُمَكّنه دائما من الإبداع الاستثنائي، إما حلا لمشكلات، كما حصل عندما دخل نظام “الخوازيق الخراسانية” إلى الأحساء، أو تصميمًا بديعا خلاقا، كما حصل حين فاز في مسابقة تصميم فندق الأحساء انتركونتيننتال، من بين اثنا عشر مكتبًا هندسيًا في المملكة.. كما أن أحمد يتمتع بخيال خصب يسبح في كل اتجاهٍ، والأفكار تخرج منه وكأنها تتوالد، ولما نشعر أحيانا بأنها نضبت، يفاجِئنا بعودة أقوى؛ وكأنَّ لديه مخزونًا احتياطيا لا ينتهي.. ويسري إبداع أفكاره إلى محادثة الناس؛ فهو ينير عقولهم، بغرسِ فكرة أخرى، استعارها من بنات أفكارهم
طبعًا لا يسلم أحمد من قفشات أخي عبد الله وتعليقاته، التي لا يسلم منها أحد…! عندما يُمسِك عبد الله على أحمد كلمةً؛ تضحك عيناه أولاً، ثم يلتفت إلى الجالسين في الناحية الأخرى بابتسامة خفيفة مع رمشة عين، تكون كفيلة بإشعال فتيل الجلسة، ليجد صاحب الكلمة نفسه في مأزق هزلي…! لو قال شخص آخر ما يقوله عبد الله للناس لكانت سببًا أكيدًا في إحداث قطيعة، لكنها على لسانه تكون بردًا وسلاما على الآخرين. يخيل إليك أن الشخص الذي سوف يَغضب من عبد الله لم يُخلق بعد…! حتى البعض من المطاوعة طوّعهم بل وطوّحهم على الرغم من حساسيتهم المفرطة تجاه آرائه…! يعلق على ثيابهم، ولحاهم، ويصدمهم في أفكارهم، مع ذلك تجد ردهم الوحيد هو الابتسامة. يقول لهم أن كلمة علماء أي “ساينتيس” بالإنجليزي، المقصود بها علماء الطبيعة وليس علماء الدين، لذا فمن الخطأ تسميتهم بالعلماء…! بحجة أن الأديان الأخرى مثل المسيحية لديهم الأب والقس والكاردينال جميعها أسماء لمراتب خاصة برجال الدين، أما أنتم فابحثوا لكم عن اسمٍ آخر. جُبل على التصرف وفق رأيه الخاص، فأصبح منتجًا لأفكار ومفاهيم غالبًا ما تكون مثيرة للجدل والسخرية معًا.