(مارتن) قسيس القرية
بعد انتقالي بأسبوعين إلى قرية (كلانفيلد)، وهي عبارة عن بيوتٍ متناثرة بين عدة حقول -عدد الخيول فيها يفوق عدد السكان- خرجتُ مع الأولاد إلى منتزه قريب من المنزل، فقابلت القس مارتن في مدخل الحقل ورحب بي، ثم بادرني قائلا: أهلًا بكم في هذا العالم المسيحي، فاقتربت منه وصافحته، فتبادلنا أطراف الحديث، بينما انطلق الأولاد لِلَعبِ الكُرَة. وجدت القس مارتن منفتحًا نسبيا مقارنة ببقية الجيران، ربما لكونه رجل دين، كنت حينها متعطشًا للحديث مع أي مخلوق في هذا المكان الريفي المنعزل، فلقد مضت عدةُ أسابيع، لم أتحدث فيها مع أحدٍ من الجيران؛ الأمر الذي أثار حفيظتي فقذفت القسَ بسؤالٍ جافٍ ومباشر محاولا كسر الحاجز: لأي فرع من فروع المسيحية تنتمي كنيستك…! فسلقني بنظرة وألحقها بابتسامة ساخرة قائلًا: ما ذا تتوقع عندما تُشاهد كنيسة قابعة في إحدى قرى الريف في مقاطعة هامشير …! سَكتُّ ثم شعرتُ بعد قليلٍ من التردد بأنَّ لديه الرغبة في المشي سويًا، فاقتربت منه أكثر، وضبطت خطواتي معه، وصرنا نتحدث بشكل متقطع حتى اقتربنا من الكنيسةِ التي كانت في طرفِ الحقل، فجلسنا في زاوية مهجورة من الكنيسة؛ وأقعدني على كرسي خشبي معمّر قد استوطنت الطحالب بين شقوقه. ثم أخرج من حقيبته اليدوية بطاقة، فيها شعار لصليبٍ بنفسجيٍ داخل دائرة بها فتحة صغيرة وأشار إليها بإصبع السبابة قائلًا: “ردًا على سؤالك نحن نتبع الكنيسة الإنجليزية مثل معظم الكنائس في إنجلترا” قلتُ: “وما الفرق بينكم وبين بقية الكنائس…؟” قال: “ما ذا تقصد …!” قلت: “مثلًا لو أردتُ أن أكون تابعًا لكم، وأمارس طقوس كنيستكم؛ فما هي الطقوس التي تتميز بها كنيستكم عن سائر الكنائس الأخرى؟” ضحك القس وقال: “أنا متأكد بأنَّ تحولي من المسيحية إلى الإسلام أسهل بكثير من تحولي إلى كنيسة أخرى باستثناء الكنيسة الإنجليزية…!” ثم وضع السبابة بين شفتيه وأردف قائلًا: “هل يهمك معرفة الفرق …؟” قلت: “إذا كان لا يضايقك”. قال: “أبدًا لا يضايقني، ألا تعلم أنَّ رجال الدين يحبون الثرثرة!” قالها ممازحًا، ثم استدار نحوي وقال: “يوجد فروقات جوهرية بين تعاليم الكنيسة الإنجليزية، وبقية الكنائس، فعلى سبيل المثال لو ذهبتَ إلى الكنيسةِ الكاثوليكية، لطلبوا منك أن تتحوّل إلى الكاثوليكية حتى لو كنت مسيحيًا وتتبع كنيسة أخرى، أي تُعمَّد وكأنَّك تعتنق المسيحيّةَ لأول مرة، أما الكنائس الأخرى مثل الإنجيلية والكاثوليكية الرومانية وغيرهم، فلديهم قوائم طويلة من التعاليم، تفرض عليك ما يتوجب اتباعه، وقوائم أخرى عن أشياء مطلوب منك الابتعاد عنها. أما نحن في الكنيسة الإنجليزية فالأمر مختلف تمامًا. فبشكلٍ عام لا نُفضّل أن نضع قيودًا على أتباعنا، بل نُحبّ أن نترك لهم فضاءً، ومساحة واسعة من الحرية، فلا نُطالبهم بسوى أن يكون الإنسان صادقًا أمينًا محبًا للخير. بعبارة أخرى أن يكون (جنتلمان)، ولا بأس إذا كان يرغب حضور القدّاس، ولو لمرة واحدة في العمر يأكل الخبز، ويشرب من النبيذ في الكنيسة. بذلك يكون حينها قد قام بأداء الحد المطلوب من طقوس الكنيسة. وبطبيعة الحال اتّباع الكنيسة يُفترض أن يؤمنون بهذا التسلسل الهرمي، وهو أن تقف الملكة على رأس الهرم، ثم يأتي رجال الدين كلٌ حسب مرتبته؛ لذا فأنا ما زلت في بداية الطريق؛ أي في القاع. هذه الكنيسة ابتدعها الإنجليز، واختاروها لأنفسهم؛ لأسباب دينية وسياسية أيضًا. أي أن الله هو الشخص المتناهي في الطيبة (The ultimate good chap) هذا على حد وصفهم”. كما لاحظت في أثناء حديثي معه بأنه يذكر إنجلترا تارة، وبريطانيا تارة أخرى، فسألته عن السبب: فضحك وقال ممازحًا: “أنا رجل دين سيء، من المفترض أن لا أرتكب هذا الخطأ الفادح، ولكن على أي حال هما مصطلحين قابلين للتأرجح …! الأمر الذي غالبًا ما يثير حفيظة بقية سكان الجزيرة من الأسكتلنديين وغيرهم”.
عاد الأولاد مسرعين وهم يلتقطون أنفاسهم بعد أن ادلهمَّ الظلام، فودعت مارتن بعد أن قضيت معه وقتًا ثمينًا وممتعًا واتفقنا أن يكون اللقاءُ القادم في منزلي.