دليّل بنت غالب:
لم يكن من السهل في ذلك الزمان تَخيّل امرأةٍ شجاعةٍ ومقدامةٍ وصاحبة بأسٍ شديد، كما هو الحال بالنسبة لها، بيد أنَّ تلك الصفات سواء كانت موروثة أو مكتسبة هي في أغلب الأحيان من الصفات التي اشتهر بها الرجال على مر العصور والأزمنة، فصارت تبدو حكرا على الرجال دون النساء، وأضحت كأنها قاعدة مسلّم بها. ولكن عندما أسترجع ذاكرتي للوراء أشعر بالسعادة والسرور التي لا توصف، لسبب بسيط هو أن القدر الإلهي شاء أن أعيش مرحلة الصبا المبكرة تحت سقف واحد مع امرأة من هذا الطراز الفريد. بل أدركت الآن بأنَّ دليّل استثناء صارخ لتلك القاعدة، التي تعودنا أن نراها في الرجال فحسب.
هي دليّل بنت غالب بنت نشّاي بنت بيشان من ال لزيز الفخذ المعروف في آل معيض من العجمان، لها ابن عم هو حمران ابن ناشي بن نشّاي بن بيشان. شاعرة، ولكن –للأسف- لم يُحفظ من قصائدها إلا النزر اليسير. عندما تكون في الأحساء تُجالس-غالبا- وجهاء الرجال من المهتمين بالشعر والأدب، أمثال الشيخ صالح الكثير، والشيخ حمد الجبر، والشيخ أحمد بن صالح الموسى، تحدثهم ويعجبون بحديثها ورواياتها للقصص البطولية، وحفظها للأشعار الحماسية. تضع عصابة على رأسها وتقول أبياتًا فيها نبرة حادة من الاعتزاز والتحدي، كالرجال؛ إذ لا يستهويها ما تقوله النساء، ربما لقلة ما تجالسهن.
توفيت أختها شيخة بنت غالب، فعرضت نفسها على الشيخ عبد الله الغردقة لتكون زوجةً له، ليس رغبة بالزواج لذاته، وإنما عطفاً على أبناء أختها…! الأمر الذي يجعل الإنسان يفكر مليًا، كيف تُقدِم امرأةٌ جميلة، في مقتبل العمر على الزواج من رجلٍ ليس بهدف الاستمتاع، وإنما لتأدية واجب نبيل. وهل أتاك حديث هذه المرأة…؟ وكيف عاشت صباها في هجرة الصرار في وادي العجمان…؟ في ظروفٍ سياسيةٍ في غاية الصعوبة والتعقيد، بين أناسٍ أشداء محاربين يحملون أرواحهم على أكفّهم، وفي الوقت- نفسه- رحماء كرماء، يصلون الرحم.
شهدت هذه الفتاة –آنذاك- مواقف وحوادث جسيمة لقبيلتها العجمان، الذين كانوا يعيشون حالة عداء وحروب طاحنة مع خصومهم بالإضافة إلى ما دار بينهم وبين ابن سعود.
حادثة العيينة:
ربما كان الأبرز من حادثة العيينة، مصرع الشيخ المهادن أمير العجمان، الشيخ ضيدان بن حثلين على يد فهد بن جلوي، الأمير القوي. يقول ديكسون في كتابه (عرب الصحراء): “نزل فهد بن جلوي في العيينة في مايو من عام 1929م، يُرافقه 500 رجلٍ، وبعث برسالة إلى ضيدان يعطيه فيها عهدَ الله، وأمان الله، فوافق على مضض وسط معارضة شديدة وتحذيرات من أقرانه وجماعته، مستشهدين بحادثة سابقة له مع نايف بن حميد. مع ذلك قرر الذهاب وأبلغ أصحابه أن يهبوا لنجدته إذا غابت الشمس ولم يعد. وبالفعل حدث الذي كان يخشاه أصحابه، وما لا تحمد عقباه، فقد كُبِّل ضيدان ورفاقه بالأصفادِ التي كانت مُعدّة سلفًا…! فعصفت رياحُ الغضب في كل أرجاء الوادي، وصاح صائحهم وشقّت النساء جيوبهن، وأشعلن النيران التي تطاير لهبها في السماء؛ ليراه حتى من هو قابع في العيينة…! فلقد اقتضت نواميس الصحراء بأن لا يعيش فيها سوى الشجاع القوي. فبرز للمواجهة 1500 من خيرة فرسانهم، على رأسهم عبد الله بن مخيال، وبزعامة حزام بن فيصل بن فوران. فانطلقوا كسيلٍ جارف للانتقام لأميرهم المغدور، ونُفِذت العملية بطريقة دراماتيكية، اعتبروها بطولية ومفاجئة، حققت هدفهم وأشفت غليلهم، بعد أن تَمكّنوا من فهد وأردوه قتيلًا، على يد الفارس عبد الله بن مخيال، الذي تمكن منه في لحظة أثناء الاشتباك، عندما أمسك بعنان فرسه، ورماه بين عينيه، وسدد أخرى في قلبه بعد أن سقطَ أرضًا من على صهوة جوداه. عندها أنشد الشاعر محمد الغالي المري هذا البيت الشهير:
بندق في العيينة حجّ راعيها طيّرت من فهد في كبد عبد الله”
والشاعر محمد الغالي المري ولد في بادية قطر و عاصر حاكم قطر السابق الشيخ جاسم بن محمد ال ثاني الذي توفي ١٩١٣ اما الشاعر فقد كان شاهداً على احداث و معارك دارت في تلك الفترة والف العديد من القصائد عنها و قد توفي عام ١٩٧٩.
هذه أشهر مرويات هذه الحادثة، إلا أنها تبقى رواية قد تتساوى فيها احتمالات الخطأ والصواب. وسبب ذلك لكونها سُجلت من أفواه أشخاص ينتمون إلى معسكر ضيدان، أيضًا تفتقر الى التسلسل المنطقي الذي أدى إلى تطوير الحدث لينتهي بهذه النهاية المفجعة. ومن الجدير بالذكر أن ديكسون التقى بأشخاصٍ شاركوا في الحادثة، كابن مخيال، وغيره، وهذه تؤخذ بعين الاعتبار حين تُقيّم الرواية، لكنها ليست دليلا قاطعا لتأكيد أو نفي حادثة الغدر.
أما الرواية الثانية فهي لروبيرت ليسي في كتابه (المملكة)؛ وهي تشير إلى أنَّ المباحثات بينهما امتدّت إلى بعد غيابِ الشمس، فطلب فهد من ضيدان البقاء إلى الغد بُغية التوصّل إلى اتفاق، إلا أنَّ ضيدان اعتذر قائلاً بأنه قد أبلغ أتباعه، بأن يأتوا إليه، إن هو لم يعد قبل غروب الشمس، فاعتبرها فهد بمثابة نكوص عن العهد وإعلان حرب. فأمر خدمه بأن يُقيّدوا ضيدان ورفاقه ويقطُعوا رؤوسهم في حالة مجيء العجمان، وبالفعل جاء العجمان فقُطع رأس ضيدان ورؤوس مَن معه، ولكن تمكَّن العجمان-في حينها- من قتل فهد أيضًا. هذه الرواية أقل إثارة وتفصيل، ولكنها اشتملت على مبررات جوهرية؛ ربما تُفسِر الأسبابَ الكامنة وراء التصعيد الدموي لهذا الحدث، خُصوصًا إذا وضعنا إطار المواجهة بين حاكمٍ يرى أنَّ خصمه متمرد يتوجب عليه الانصياع، والتخلّي عن حملِ السلاحِ على الأقل ضد الدولة. مع ذلك تظلّ رواية كسائر الروايات قابلة للأخذ والرد. علماً بأنَّ (ليسي) لم يعايش الحدث، بل تفصله عنه عقود عديدة. كما لا أريد إقحام القارئ في متاهات الاحتمالات، بل أترك له المجال ليبقى باب الاستكمال مفتوحاً.
زادت تداعيات هذه الكارثة من الموقف صعوبةً وتعقيداً بالنسبة للعجمان، فخصومهم ليسوا مجرد قبيلة أو عائلة، بل حُكّامًا أولي بأسٍ شديد جاسوا خلال الديار، وعاشوا حالات من الانتكاسات والفزع لأكثر من قرنين من الزمن، وانتقموا لأنفسهم ولو بعد حين. لم يستطيعوا الإمساك بـعبدالله بن مخيال الذي بقي مطاردًا بين العراق والكويت بل تمكنوا من قتل أبيه. أما عبد الله بن مخيال نفسه، فلقد قابلته وأنا شاب في سن المراهقة وهو قد ناهز الثمانين في الكويت، كان رجلاً أبيضا طويلا نحيلا، له لحية بيضاء ناعمة، ويلبس نظارة طبية قعرها سميك لها إطار أسود. كان اللقاء في بيت ابن أخيه عيد بن مخيال الذي كان متزوجاً من نورة بنت العم أحمد بن صالح الموسى. يُذكر أن ابن مخيال -إبان حرب الكويت- لم يغادر بيته، بل بقيت ديوانيته في العباسية مفتوحة طوال مدة الحرب، يستقبل الناس ويقري الضيوف بمن فيهم العراقيين! وقد توفي رحمه الله في عام 94 م وقد تجاوز المائة عام.
أمَّا بطلتنا دليّل فكانت تُشاهد، وتتابع كُلَّ ما يدور، وتتشرّب هذه المواقف، حتى صارت جزءًا من تكوينها الشخصي. فمعركة كنزان، وحادثة قتل ضيدان كانتا متجذرتين في أعماقها، ولطالما رددت أبياتًا وقصصًا جرت خلالهما. أحياناً تجدها تهيجن في طرف حوي البيت وهي ممسكة بالمغزل (علمي بحيّاني على دور ذا العيد/ يومٍ أبو تركي يداوي صوابه) ربط زمني بين لقاء الأحبة ومصائب الخصوم…! وتقول أيضاً (ياما ذبحنا في اللقاء يوم كنزان/ منهم سعد خيال صفرا جموحي) مفردات تجمع بين نشوةٍ الانتصار والتشفي، وتشتد وتيرة الحماس لديها عندما تقول (تسمع صرير السيف في تواليهم/ مثل صرير المحش في عذوق الصرام). قصائد في مجملها تعكس قسوة المواجهة، وحجم الخسائر التي تكبدها الطرف الآخر في معركة كنزان والعيينة.
فمن الأهمية بمكانٍ الإشارة إلى الظروفِ التي كان يُواجهها الطرفان، فالأمير فهد منوط به إيقاف السلب والنهب. أما الشيخ ضيدان فكان أمام خيار صعب وهو تسليم السلاح في ظل عدم وجود ضمانات كافية تحميه من بقية القبائل، ولربما جانبه الصواب حين ظن بأنَّ تجريد جميع القبائل من أسلحتها أمرٌ بعيد المنال. فلو نظرنا إلى طبيعةِ المواجهة في إطارها الزمني، لم تكن صراعًا بين فريقين متنافسين على السلطة، بل محاولة مبكرة من دولة لبسط نفوذها على حساب كيان قبيلة لها إرث طويل من النفوذ والسيطرة. ولو تأملنا في شخصية الأمير فهد -التي شاع حولها الكثير من اللغط المبالغ فيه، وتمعّنا في رواية ديكسون، التي تميل الى تأكيد حالة الغدر- لوجدنا أن ديكسون –نفسه- امتدح الأمير فهد، ووصفه بأنه كان شجاعاً وطموحاً. كذلك قصيدة العوني المشهورة تعضّد هذا الرأي الأقرب إلى الواقعية عن تلك الشخصية، حتى لو أخذنا في الاعتبار أن الشاعر كان يلتمس العون من فهد وهو في السجن:
ياركب عوجوا روسهن بالشكايم مقدار قيمة ساعة يا هل الهيم
خلوا نجايبكم تبوح الخرايم كل شي ولا ممشى الرخا والتناسيم
ليما يبين لكم رفيع العلايم بيت تعلّاه الدخن كنّه الغيم
بيت به الضرغام حبس الهدايم فهد الى عدت رجال الملازيم
واثنوا سلام عد وبل الغمايم لسعود نطّاح المقابيل صمصيم
قولوا لهم خدامكم بالهضايم ينخى فهد وسعود ما به مثاليم
ينخى هل العوجا كبار الوهايم موارث الصنديد مروي ظما الهيم
عبد الله اللي فك وسر الجرايم عَمَّر هل الدنيا بليا مغاريم
وادعى الضبي للذيب ولف ورايم حتى أودع القناص يجفل من الريم
دليّل وضيدان آل حثلين:
يُقال إنَّ ضيدان عندما نوى الحجَّ ذات يوم؛ سأل عن دليّل، فنما إلى علمه أنها عند آل موسى في الأحساء. فترك لها ذلولاً في الصرار، وقال: إذا أرادت دليّل الحج فلتلحق بنا…! وهو على يقين تام بأنها قادرة على ذلك وكذلك فعلت. المدهش في الأمر أنَّ أمير العجمان يسأل عن هذه الفتاة عندما قرر الرحيل…! وهذا يدل على علو مكانتها الاجتماعية والقبلية عند قومها.
ركبت دليّل المطية وحدها وعلّقت البندق بغزال الشداد، والتمر في المزودة والماء في القربة، أما زادها الحقيقي فهو الإيمان والصبر والتفاؤل. تحث السير ليلًا ونهارا، حتى تمكنت من اللحاق بهم بعد يومين…! قد يُشكك البعض في صحة هذه الرواية، ولكنّ الذي يعرفها عن قرب -كما هو الحال بالنسبة لنا- فلن يساوره الشك أبداً.
ليتني كنت أستطيع اقتحام أفكارها -أثناء تلك الرحلة- لأعرف ما الذي دفعها للإقدام على هذه المغامرة المثيرة…! التي ربما يعجز عنها صناديد الرجال، ناهيك عن امرأةٍ وحيدة على ظهر ذلول. أيضًا لا نعلم على وجه الدقة خطَ سيرها، أو المكان الذي لحقت بهم فيه. ربما سلكت طريق الكنهري الذي يقع جنوب الصرار، مرورًا بالعيينة، ثم القليّب، وبرقا الفهدا عن يمينها، واستمرت باتجاه الجنوب الغربي حتى أصبحت جويات الهمل وأم المصران عنها يمينًا، مرورًا ببحرة الكلاب، ولربما تزودت بالماء من دحل أبو حرملة، فواصلت السير حتى صارت روضة خسيفة عنها يمينًا، التي ذكرها راكان في قصيدته (يسقي خسيفة والثمان أرضها سال/ مرتع معطّرة السيوف الصقيلة) وأخيراً معقلا المكان الذي يُرجّح أنها التقت بهم فيه.
وعلى أي حال، تلك الرحلة تحمل في طياتها تحديات ومدلولات عديدة، منها ما يتعلق بمعرفة الطريق المؤدية إلى مكة، والاهتداء بالأنواء والنجوم، وكذلك أماكن آبار المياه المتباعدة على الطريق. ناهيك عن مشاق ومخاطر الطريق والعناية بنفسها وبذلولها. هل كانت ملمة بجميع تلك المهارات…؟! إذا كان الجواب نعم وهو الأرجح، فنحن بصدد الحديث عن امرأة ولا كل النساء.
تسير بمفردها في ذلك الطريق الموحش بين الروابي والكثبان الرملية، يلفها السكون والوحدة. صورتها في مخيلتي معصوبة الرأس، عليها دراعة داكنة منقطة باللون الأحمر، تركب ذلولًا حمراء عمانية، عليها خرج مطرز بألوان حمراء وصفراء زاهية، صنعتها بيدها، تزيّن جوانب الخرج صفّات من المعاني (خيوط من الصوف) تتدلى على كل جانب، وهي ممسكة بخطام المطية بيدٍ، وتومئ بعصاها باليد الأخرى، وتهيجن بأبيات من تأليفها (يا راكب من عندنا فوق ضبيان/ هميلعن يقطع بعيد الريادي) وتردد: (يا ونتي ونة حيام معاويد/ يسكن لهن زرعن رغابن ترابه). تردد مثل هذه الأبيات بصوتٍ هاتف ورخيم، ينبعث خلال الظلام الدامس يبث روح العزيمة والطمأنينة فيها وفي الذلول!
بطبيعةِ الحال تتوقف للزاد أحيانا، ولتأدية فروض الصلاة أحيانا أخرى، وليس من المستبعد أنه كلما سنحت لها الفرصة تصطاد أرنبا أو طائراً أثناء الطريق، وقبل أن يختفي قرصُ الشمسِ من وراءِ الأفق، تقوم بتجميع الحطب، وتستريح ثم تواصل.
وهذه قصيدة دليل في رثاء الشيخ خميس ابن بطي ابن منصور آل منيخر عندما توفي عام ١٩١٧ نقلًا عن ديوان ابن صبحان (القديم والجديد في الشعر والقصيد):
على وطا الرافعية دفن رجالي خميس اللي هل العيرات يتلونه
شيخ شجاع عريب الجد والخالي يثني وراء التالية والقوم يدرونه
ينطح شبا المقبلة وان جات زرفالي والرمل واليتاما اليوم يبكونه
ويا ربعنا اللي فقدتوا ذرب الافعالي تكفون إلى رحلتوا لا تخلونه
أخاف يدري بكم شيال الاثقالي يدري وروحه في القبر مدفونة
وياعد ياللي قراح مشربه حالي اليوم ما ينبغي والسحت يردونه
وعسا البقى في جملنا حامي التالي ضيدان ابن خالد شيخ تعرفونه
ونقل لي الوالد أبياتًا عنها، عبارة عن حوار بين زوجة اسمها حَسِن (بفتح الحاء وكسر السين) وزوجها عميرين:
قالت حَسِن:
عميرين قبله ما بكيته
كيف أبكي مع ضيفٍ متقالل عشاه
قال الزوج:
يا حَسِن ما تدرين من جاك عاني
من شام وخلا والديه وراه
قالت حَسِن:
جزاه ما غير شاف ثماني
ولا فرح بمز الريق من ثناياه
دليّل في بيت الوالد:
في منتصف الستينيات الميلادية من القرن الماضي كانت تقضي الصيف من كل عام في بيت الوالد، يأتي بها أحد أبناء أخيها فالح أو عماش، فهي لا تشعر بالراحة إلا عندنا، على الرغم من وجود الكثير من أقاربها في الأحساء، فهي خالة أم الوالد (عبدالرحمن عبدالوهاب الموسى) وتحبه منذ أن كان صغيرًا، حتى أنها أرادت أن تهب له كامل حصتها من الإرث، وهي أراضي في المبرز تعرف بخسارة، إلا أن الوالد كعادته منعه وفاؤه المعهود وحبه وعطفه على إخوانه، وأصر على أن يشرك إخوانه معه ،على الرغم أنها حاولت أن تبره ولكن بطريقة أخرى، وذلك أن تهب حصتها لأخي عبدالله الذي كان حينها طفلاً صغيراً ! لكنه ظل على موقفه.
كانت امرأة جميلة فارعة الطول، ممشوقة القوام، جسمها متناسق وأطرافها مبرومة بشكل لافت للنظر. تمشي بخطوات متأنية تنم عن ثقة راسخة بالنفس وشهامة عالية. كانت في العقد السابع من عمرها إلا أنَّ ملامح الجمال فيها لم تضمحل مع كرّ السنين، بفمها المزموم وعينيها المشبعتين بالدهاء وأنفها المرتكز وحاجبيها الهلاليين. تجلس على بساط صغير في الناحية الشرقية من حوي بيتنا القديم في براحة الجبري، ذلك الحوي الذي كنا نراه واسعًا مترامي الأطراف، أما بمقاييس اليوم فلربما لا يتجاوز حجم غرفة نوم في وقتنا الحالي. أرضيته رملية لم تعرف السجاد أو البلاط قط، بقدر ما عرفت العسو (عرجون النخيل) على يد خادمتنا الأحسائية الطيبة، التي كانت تنظفه كل يوم، والحَمَام يتولى التقاط ما لم تَرَه عيناها المصابة بالعشاء الليلي، وإذا تبقى شيء يكون من نصيب مخلوقات من نوع آخر تعيش خلف الكواليس في جحور داخل تلك التصدعات التي في أسفل الجدران…! كان الحمام يرفرف في كل أرجاء المنزل، وهديله العذب قبيل المساء يخفف من وحشة تلك الدهاليز المظلمة، آثار زبل الحمام على الأرض والجدران له أشكال مثل الفسيفساء الأندلسية…! يعيش ويتكاثر معنا في الرواشن المطلة على الحوي وعلى بعض الغرف، ونرى صيصانها تطل علينا خلسة برؤوسها البرصاء التي يكسوها زغب خفيف، وأمام غرفة الحطب يُكب الشعير للحمام على خيشة قديمة وبالية. بينما تجلس دليّل تلف المغزل بيدها، ونحن نجتمع حولها؛ لتحكي لنا انتصارات العجمان في غزواتهم على خصومهم، وتردد أبياتًا فيها نبرة عالية من التحدي، مستشهدة بواقعة العيينة، وما صاحبها من أحداث ونحن نستمع الى أعذب الأبيات:
يا الله يا اللي كل خلقه ترجّاه يا خيّر يا عالم بالسراير
افرج لمن حارب النوم ما جاه كنه كسير قاذيته الجباير
وإلا قريص أصفر السم يسعاه وإلا أرمد دقّت عليه العواير
خان بعهد الله عسا الرب يمحاه عساه في دنياه يعطى الحساير
تسابقوهم مثل جربٍ مطلاّه يعطون مفهوق ويوفون حضاير
ثم هدّموا بيض الخيام المبنّاه هذا مذبوح وهذاك ناير
أنا فدا اللي شينوا زين ممساه حطوا على كبده سواة السعاير
فن الابداع عند دليّل:
لقد فتشت ملياً في خبايا تلك الشخصية، وأطلت النظر في مخيلتها في ذهني، حتى خلت أني أراها تجاهي، محاولا الإحاطة بما تجود به من خصال ومناقب متعددة. وأدركت بما لا يجعل مجالاً للشك، بأنها لم تكن مجردَ امرأة شجاعة وشاعرة فحسب، وإن اتفقنا جميعًا على علو ومكانة هذه الفضائل. فمن الواضح أننا كلما أوغلنا في شخصيتها اتسعت بنا جنباتها أكثر فأكثر. لذا يحلو لي –الآن- وأنا في سعة من أمري، أن أسجل اعترافي بأن نظرتي حول شخصيتها كانت متراخية بل وقاصرة إلى حدٍ كبير، خصوصاً في المراحل الأولى من كتاباتي عنها. فمن المحتمل أنني وقعت في فخ الغفلة عن جانب مضيء في تكوينها بدون قصد مني، ذلك الجانب المتعلق بالإبداع والإتقان في إنتاج الأعمال. فلقد عُرفت هذه المرأة من بين الناس بمهارتها في غزل الصوف وعمل المنسوجات، بل إن “نسج دليّل” كان يعدّ أشبه بعلامة للجودة آنذاك. كانت امرأة منتجة لديها حرص تلقائي على الوقت، فلم تكن تدع مجالاً للفراغ أن يتسلل إليها، على الرغم من السنين المتراكمة على كاهلها، فلم يكن المغزل يفارق كفّيها أبداً. كما كانت تتقن صناعة الخروج والمعاني الجميلة والمزركشة. شاهدتها على صغر وهي تمد خيوط الصوف في حوي البيت، تنسج الفلجان، والسواتر، والقواطع، وهي عبارة عن أجزاء من بيت الشعر، بحيث تشرع في حياكتها كل على حده، ومن ثم تقوم بتوصيل الأجزاء بعضها ببعض. إن أكثر ما استأثر اهتمامي وأنا أتجول في طيفها المرسوم في ذاكرتي، هو إصرارها على الاعتماد على النفس، على الرغم من كونها امرأة طاعنة في السن، فلم تكن تحتاج للرعاية أو المساعدة من أحد. تُدبر شؤونها الحياتية بنفسها من دون الاتكال أو الإثقال على الغير. حري بنا جميعاً أن نتأسى بطبائعها وبمنهجها الفعّال والمنتج في الحياة.
سويده …!:
بينما كنا جالسين مع دليل في أحد الأيام؛ إذ اقتحم البيت علينا (سويده) الذي كان بيتهم في براحة الجبري، وقريب جدا من بيتنا، بابه الخشبي الأشهب المكتوب عليه باليد 175 /5 وضعتها مكافحة الملاريا، فوق الكتابة حلقة من حديد لطرق الباب، وبسبب علوها لا يستطيع الوصول إليها إلا البالغين ..! الباب مرصع بشكلٍ أفقي بثلاثِ صفات متوازية من المسامير البارزة والمدببة. دفع سويده ذلك الباب الذي كان موارباً، وكان حينها شابا ضخما أسوداً، جسمه مفصل يشبه عدائي الأولمبياد أو أجسام الملاكمين في هذا الزمن، ربما هذا هو الشيء الوحيد الذي يحسده الناس عليه…! تنتابه أحياناً نوبات من الصرع المفزع، فيهيج على من حوله فيسوقه القدر لاقتحام أحد البيوت. ومن سوء حظه أن الدور في هذه المرة كان على بيتنا، ولو علم بوجود دليّل وكان لديه ذرة من العقل لما فكّر في هذا الأمر قطعياً. فبمجرد أن رأينا طلعته البهية والتي تعودنا عليها ولكن في البراحة ومن بعيد، أطلقنا سيقاننا للريح وهربنا إلى السطوح، والنساء دخلن الغرف وأغلقن عليهن الأبواب. بينما دليّل بقيت في مكانها في بطن الحوي، فلم يحرك هذا الموقف فيها ساكناً، ثم التفّت عليه ونهضت من دون ترددٍ، وصرخت عليه ونهرته عدة مرات: “الخلا.. الخلا..” بينما هو تفاجأ ووقف واجماً يحدّق فيها، ربما لم يتعود أن أحداً يستطيع التصدي له والوقوف في طريقه…! وبدأ ينظر إليها بتعجبٍ، وهو يتراجع وهي مندفعه اتجاهه، فشعر أنها تنوي الانقضاض عليه فالتفّ الى الوراء هارباً وسلك الطريق المؤدية إلى الأحواش فتعقبته في كل ناحية من المنزل وهي تهدد وتتوعد، حتى وجد طريقه الى الباب وفر هارباً.
تنفس الجميع الصعداء، وكأنهم خارجون من مخابئهم بعد زوال غارة جوية…! أما بالنسبة لدليّل، فالأمر بسيط ولا يعدو أن يكون شأناً من شؤون المنزل! لِمَ لا؛ فهذه المرأة كانت تشارك في الغزوات وتنازل الأعداء في ميادين القتال. في تقديري لو أنها التحقت بأحد الجيوش النظامية في هذه الأيام؛ لعينوها قائداً لقوات الصاعقة.