متعة التذكّر:
الشيخ:
عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن الموسى
الحكيم (1919- 2006م)
(وَمَن يُؤْتَى الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرا) (البقرة 269)
عندما يأتي المساء في الأحساء، ويفرغ الناس من صلاة المغرب، تتجلى في ذهني صورة ذلك المكان؛ تُفتح بوابة المزرعة “البريني” على مصراعيها وتُضاء المصابيح الهادئة كهدوء صاحبها. إضاءة المكان تريح النظر، ولا تشتت الانتباه، وتبعث على الطمأنينة. يُفرش السجاد وتُصفّ الكراسي في الساحة؛ شرق المبنى، ويبدأ العم الشيخ عبد الرحمن، أو العمدة -كما يحلو للبعض أن يسميه- في استقبال الناس، تراه جالساً في صدر المكان وقوراً مسدلاً غترته خاشعاً بصره، تُجلّله السكينة، وكأنه ضوء قادم من نجم بعيد. تقاسيم وجهه الهادئة تحمل معها مسحة حزن فيها تأمل، وابتسامته الرقيقة والخجولة تكشف عن أسنان بيضاء ومنتظمة، لا يسع أي إنسان إلا أن يُجلّه ويقدره، لدرجة الخجل حين نتحدث إليه.
كان يجلس في مزرعته “أم القراريص”، بين المغرب والعشاء، وأحيانا في بيته في حي اليحيى، خصوصا في فصل الشتاء؛ حيث الجو البارد في المزارع، ولم يجلس في مزرعته “البريني” إلا متأخرا، وكلما حلَّ في مكانٍ زاده سعادة، وجمالا، وجلالا؛ فكما يقال: المكان بالمكين.
كلما رأيته تذكرت الآية الكريمة “ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا”، إذ قد جُمع فيه علم العالم، وفقه الفقيه، وفطنة المتبحر في شؤون الحياة، يعرف كيف ومتى يخطو خطواته إلى المواقف الصحيحة.
وكان يعرف الناس بجميع طبقاتهم، ملماً بأنسابهم وسيرهم الذاتية، مرجعاً بارعاً ومتمرساً في توزيع التركة بشكل دقيق ومتوازن، هذا العمل يعتبر اليوم من أعمال المحاماة ويتقاضون عليه مبالغ طائلة، علما بأنه يفعل ذلك لوجه الله.
يتمتّع بعقلٍ نيَّر، وبصيرةٍ نافذة، يزن الأمور بمعيار دقيق للغاية كمعيار الذهب. يأتيه الناس بمختلف أطيافهم؛ لينظر في خلافاتهم، أو طلباً للمشورة، وهو يفعل ذلك بكلِ ودٍّ واحترام، وبنيةٍ صادقة لوجه الله.
فذاع صيته بين الناس بعد أن وجدوا فيه مكانًا للرأي السديد، والمشورة الصادقة، مما جعل الشيخ عبد العزيز اليحيى -رئيس المحاكم في الأحساء- يختاره رئيسًا لهيئةِ النَّظر. أتعجب عندما أشاهد شخصاً غريباً عنّا -في مجلسه- يعرف الكثير عنه، وعن حياة أهله ويحفظ مواقفهم، وأقوالهم، مع العلم أنه لا يذكر إلا الإيجابي منها، فتلك إحدى خصاله النبيلة والمتعددة، الأمر الذي جعل الناس تحرص على ارتياد مجلسه، وتجلّه وتقدره، وتستأنس لحديثه ورأيه.
هيئته، وسَمْته، وقامته العالية النحيلة، تجعل الناظر إليه يتخيله من جيل الأوائل من عائلة الموسى، الذين قَدِموا للأحساء، لقد جسدت شخصيته صفات الرعيل الأول من الأجداد، الذين أسسوا مكانة وهيبة للعائلة، على الرغم من أنهم كانوا وافدين إلى البلد. صوته المبحوح قليلاً، ونظراته الخاشعة، تُضفي على محياه سكينة على سكينته. الكلمات تخرج منه متأنية لها أغراض محددة، فقد كان قليل الكلام وكثير الإصغاء فهو لا يتكلم إلا سائلاً أو مجاوباً أو معقباً على حديث، حتى في مشيه كان مقسطاً هيناً ليناً، وهو حقاً من الذين يمشون على الأرض هوناً. فلا غرابة فقد تأثر بأبيه الشيخ عبد الوهاب الذي كان تقياً ورعاً وعالماً بالأنساب، كذلك جده لأمه الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله -أحد مشاهير الرجال في الأحساء-، كما ذكر أيضًا أنَّ سالم بن حسين جَدّه الثالث، وجد العائلة قد اشتهر بالعلم والعمل وكذلك كان ابنه عبد اللطيف، وأيضا كان جده الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن سالم (المتوفى عام 1332هــ)، فقيهاً متواضعاً عالماً بالسيرة والفتوحات، وله معرفة بالبلدان وصفاتها، وقد ذكر ذلك العالم الجليل الشيخ محمد بن عبد القادر في تحفة المستفيد (ص397)، وأنه حضر مجلسه على صغر وذكر أيضاً أن له قصيدة يواسي فيها الشيخ عبد الله بن علي آل عبد القادر في زوجته وهي أيضًا أخته من الرضاعة:
الصبر يحمد في العواقب للفتـى والعبد يرضى قسمة الرحمــن
والمرء في الدنيا الهموم تصيبه فتكون تمحيص لعبدٍ جــــان
والمتقون يزاد في أقدارهـــم أهل الصفا والود والعرفــــان
فلذا يزاد على التقي بـــلاؤه لينال ترجيحا لدى الميزان
كم كان إلف فاته مألوفـــــه فاعتاض إلفا مثل غصن البان
خلفا من الرب الكريم أثابه ليبل حر الواله الظمآن
ولكم لطائف للإله بخلقه فتبارك المولى عظيم الشأن
تجري الأمور على إرادة ما يشاء قد قدرت في سابق الأزمان
فشؤون يبديها لنا لا يبتدي جلَّ العزيز مدبّر الأكوان
إنَّ القرب من هذا الرجل تهذيب للنفس، واقتراب نحو الفضيلة، وترسيخ للمبادئ والقيم الإنسانية.
من الأشياء التي خُلّدت في ذاكرتي -أثناء ترددي على مجلسه- معاملته اللطيفة، التي غمر بها الجميع؛ ممن هم في سنٍّ أبنائه من العائلة.
في تقديري إن ما يميز شخصيته عن أقرانه هو التماثل والتوازن العجيب في التعامل مع الجميع، كأبنائه؛ دون النظر إلى قرب النسب أو بُعده، ولا أذكر-أبدا- أنه أخل بهذه الأريحيّة في التعامل. فلقد كان إنساناً خجولاً رقيقاً حريصاً على مشاعر الآخرين إلى أبعد حد.
كنا نأتي لمجلسه منذ الصغر، فيُقدّرنا ويحترمنا، كما لو كنا كبارًا، يظل واقفًا حتى يجلس كلٌّ في مكانه، ثم يعيد السلام لكلِ شخص على حده.
على الرغم من وقار شخصيته، فغالباً ما تجده يفسح مجالاً للمرح والمداعبة إلى الحد الذي لا يخدش حياء الجو العام، فهو يتذوق النكتة، ويتذكر المواقف المرحة، ويعرف كيف يداعب أصحابها، يعطي لكل شخصية حقها، فتجده أحياناً يخصص وقتًا للفكاهة مع ابن العم موسى بن أحمد؛ المشهور بين العائلة بالطيبة والفكاهة وخفة الدم، وبروحه المرحة التي تذيب المسافات بينه وبين الناس، وكذلك تعليقاته المتطايرة…! التي -غالبا- ما تمثل خرقاً أكيداً لما هو مألوف…! كحديثه عن المشايخ وما أدراك ما المشايخ؟ ولكن شتان بين ما يقصده موسى وما تعنيه هذه الكلمة…! مع ذلك يسترسل معه في المرح، فلقد كان محباً لموسى بن أحمد، وقد نقل لي الوالد بأنه ربما يكون هذا امتدادا لمحبته لوالده العم الشيخ أحمد بن صالح الموسى، الأديب والعالم بالسيرة والتاريخ وصاحب الصوت العذب الجميل. كذلك لمسنا أنا وإخواني منه الشيء نفسه؛ بسبب محبته لوالدنا. فالمحبة لديه لا تقف عند الشخص نفسه، بل تمتد إلى أبنائه وتتسرب الى أحفاده، وهذه سجية من سجاياه المتعددة.
إن السماحة والسكينة والحياء جميعها خصال بينّة في شخصيته، إلا أن تلك الخصال لا تثنيه عن اتخاذ المواقف الحازمة، والقوية كما فعل في قضية موسى، عندما صدم -بسيارته- شخصاً عن طريق الخطأ، وتوفي الرجل، فتوجب على موسى دفع الدية، فاستشاط الشيخ عبدالرحمن غضباً وثار ثورة البركان، عندما تأخر أفراد العائلة في القيام بواجبهم تجاه موسى، وهو بطبعه لا يميل إلى الشدة إلا عندما لا يكون هناك مفر من ذلك، فجمعهم وناداهم وأغلظ عليهم، وأبلغهم بأننا نحن العاقلة؛ لذا يتوجب علينا شرعاً القيام بالواجب وتسديد الدية فوراً، فاستجاب له الجميع وقاموا بأداء الواجب مشكورين .
عندما توفي السيد أحمد الهاشم، -وهو أحد الرجال المعروفين في المبرز-، تقدم الدائنون بشكوى لدى المحكمة ضد الورثة، وحكم القاضي موسى الكلثم، بأن يُباع بيت المتوفى -الذي تسكن فيه زوجته وأبناؤها- لتسديد ديونه…! وطلب من الشرطة -التي كان رئيسها مصطفى علوي- ومن الشيخ عبد الرحمن -بصفته العمدة آنذاك- بتنفيذ الأمر، إلا أنه وقف بالمرصاد لهذا الحكم الجائر، الذي ينص على إخراج الأرملة، وأبنائها من بيتهم إلى المصير المجهول…! وأبلغ مصطفى بأن هذا الحكم فيه ظلم وتعسف على عائلة بريئة، لم تقترف ذنباً سوى أن عائلها قد توفي. أما مصطفى فقد كان رده واضحاً عندما فاتحه قائلاً بأنني جهة تنفيذية فحسب، وليس بوسعي عمل أي شيء. فلم يتوانَ الشيخ عبد الرحمن بل توجه إلى القاضي موسى الكلثم وطلب منه إعادة النظر في الحكم، وأنه لا يمكن تنفيذه، وليس من المنطق إخراج هذه الأرملة، واليتامى من بيتهم، علما بأنه حتى الذي يبيع بيته يعطى مهلة أحياناً تصل إلى عام كامل، فما بالك بمن نزل عليهم هذا المصاب الجلل بفقدان رب الأسرة وعائلها الوحيد؟! فوقف أمام تنفيذ هذا الحكم وقفة صامدة، وبيَّن للقاضي بأن هذا الأمر لا يقبله شرع، ولا عرف، ومرفوض حتى من الناحية الإنسانية، وسرد أمامه الحججَ العقلانية، والبراهين المنطقية، حتى تَمكّن بحكمته من إقناع الشيخ موسى بوجهة نظره، وكما يقال” الحكمة نور من الله”. عندها لم يجد القاضي من بُدٍّ سوى إعادة النظر في الحكم، وبفضل من الله أنقذ الشيخ عبد الرحمن هذه العائلة من التشرد، والضياع. هذا الموقف الإنساني يسلط الضوء على أحد الجوانب المشرقة في شخصيته، تجاه عائلةٍ، ليس بينه وبينها قرابة، أو مصلحة، بل كان مدفوعاً بحبه للخير، ورفع الظلم عن الناس.
عندما أركب سَيّارتي متجهًا لمجلسه، أشعر -دائماً- بضيقِ الوقت، وأنني متأخر، وعليَّ أن أسرع؛ لكيلا يفوتني موعد الجلسة. أحياناً -وأنا في طريقي إليه- تطوف بمخيلتي تلك الخواطر التي تنتاب الشخص عندما يكون قاصداً مكاناً ما، وأضبط نفسي متلبساً بهذا السؤال: ” ما الذي سنجده أنا وأقراني هناك…؟ وماذا سيمنحنا هذا المكان…؟ ثم أبدأ بضبط صورة ذلك المكان في مخيلتي، وأتأمل فيها جيداً، فلاحظت بأننا لم نشعر يوماً من الأيام بأننا ضيوفٌ في مكانه، فالحاضرون جميعاً يجلسون في الأماكن التي تتناسب مع أعمارهم من تلقاء أنفسهم وبدون تكلف، قد يتدخل -في حالات ضيقة جداً- لضبط أي خلل بمجرد إشارة خفيفة منه. ثم وجدت أن في مجلسه نشعر بحقيقة الانتماء العائلي، وأننا أسرة واحدة لها مكانة معتبرة خرج منها رهط من الرجال ذاع صيتهم بين الناس، من خلال مواقفهم المشهود لها بالوجاهة والكرم والرجولة.
يعجبني في العم الشيخ عبد الرحمن هذا الصفاء العقلي، الذي يستطيع من خلاله الربط بين مواقف الماضي وإسقاطها على الحاضر، فذاكرته تزخر بالدروس والعبر، التي تنّم عن الحكمة وحسن التصرف في معالجة العديد من المواقف.
من المواقف الطريفة أنَّ الشيخ عبد الرحمن في أحد الأيام رأى أنَّ حجم مجلس البيت كبير مقارنة بعدد الأشخاص الذين يأتون إليه بين المغرب والعشاء، فقرر إنشاء ملحق صغير يستقبل فيه الناس، إلا أن هذه الفكرة لم تَرُقْ للوالد، حيث كان يرى أنَّ مكانته تستحق مكاناً أكبر من هذا المجلس المتواضع، بيد أنَّ الشيخ عبد الرحمن لم يلتفت لهذا الأمر ولم يُعِره أي انتباه، كما أنَّ الوالد يرى أن للشيخ مكاناً رفيعاً وأن هذا الملحق -أو على حد وصفه “الصندقة”- لا تليق بمكانته. فكان يأتي إليه في الملحق ولم يكن يخفي امتعاضه، وعدم رضاه من هذا التغيير غير الموفق من وجهة نظره…! فلم يصبر الوالد طويلا، فالتفت إليه في أحد الايام بعد أن وضع كفيه بين ركبتيه، وانحنى قليلاً للأمام وخاطبه قائلاً: “لماذا لا تبيعون الأثاث الوثير الموجود في المجلس الرئيسي أو من الأفضل أن تحرقوه…!” فابتسم ابتسامة عريضة وقال: “لماذا سلمك الله يا أبا عبد الله؟” فقال: ” لقد تركتم مجالسكم الفخمة وأثاثكم الوثير، الذي أنفقتم عليه الأموال الطائلة، وجلستم في هذه الصندقة، فلم يعد لكم حاجة بها، لذا فإما أن تبيعوها أو تحرقوا الأثاث…!” ضجّ الحاضرون بالضحك، وتبدد بعض التوتر الذي سببته مداخلة الوالد المفاجئة، وظل الشيخ عبد الرحمن -حينها- صامتاً، ثم أطرق مفكراً وعقب قائلاً: “إن الذي قلته -يا أبا عبد الله- هو الواقع، فالسواد الأعظم من الناس يُشيّدون منازلهم ولا يحسنون الانتفاع بها، فيخصصون أماكن لاستقبال الضيوف، ونومهم وأكلهم مع العلم أن أغلب الناس في هذا الزمان لا يأتيهم ضيف إلا نادراً”. ربما أراد الشيخ عبد الرحمن أن يُمسك العصا من الوسط…! فكلامه بمجمله عام، ومن الصعب أن يختلف عليه أحد، بيد أنه -في قرارة نفسه- قد اتخذ القرار الذي يريده، بحيث لم يمضِ وقت طويل حتى انتقل من الملحق إلى مجلس البيت، وكلما سأله أحد لماذا غيرتم مكان الجلسة…؟ يرد مبتسماً وملامحه تفيض بالرضا: “لقد أصرّ أبو عبد الله على الانتقال إلى هنا”.
لقد ذكرت لي الوالدة أنَّ امرأة – فقيرة، طاعنة في السن- تعيش على نفقة الشؤون الاجتماعية، عندما كان الشيخ عبد الرحمن، عمدة الحي؛ لهذا وصلت أوراقها إليه، ليُصدّق على بياناتها، ومن المفترض أن تحضر لديه؛ لتبصم على الأوراق، إلا أنه لم ينادِ عليها، بل ذهب هو بنفسه إليها؛ مراعاة لسنها، ولكونها امرأة فقيرة ومسكينة.
هذا التواضع وهذه الرقة في التعامل تدعونا جميعا؛ لنقف إجلالاً وتقديراً لهذه الشخصية الرائعة، الذي لم يفعل ذلك ليتباهى، أو ليشكره الناس، بل كان عملاً خالصاً لوجه الله.
إن المرء ليشعر بالرضا والسعادة والطمأنينة، بأنه لا يزال في هذه الدنيا المادية المتلاطمة الأمواج أناس قلوبها عامرةً بالإيمان.
كان حسين الزيد رجلاً أميناً مخلصاً حافظاً لأسرار مهنته، يتوسط بين الناس شراءً وبيعًا، وقد جار عليه الزمن، وتكالبت عليه الظروف، وقد وصل به الحال إلى درجة العوز، لكنَّه رجل عفيف، لا يسأل الناس إلحافاً. وقد كان لدى الشيخ عبد الرحمن حسّ مرهف يقوده إلى الشعور بمعاناة الآخرين، فعرض عليه أن يسجله من ضمن المستفيدين من الضمان الاجتماعي، فامتنع الرجل بدعوى أنه يستحي من الناس أن يذهب في آخر الشهر؛ لاستلام المبلغ من الموظف، فاقترح عليه أن يُوكله على استلام المساعدة، وبالفعلِ مَكثَ الشيخ عبدالرحمن سنين طويلة على رأس كل شهر يذهب بنفسه إلى الضمان لاستلام مستحقاته .