متعة التذكّر:
الحبيبين: صالح بن محمد آل كثير وحفيده عبد الله بن محمد آل كثير
يقول المتنبي:
“على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قدر الكرام المكارمُ”
مقدمة:
ربما قصص الحاضر التي نعيشها، والماضي القريب، لا تقل أهمية عن روايات الزمن المنصرم؛ لذا حاولت بقدر الإمكان اقتناص قصص ومواقف لرجال لقوا ربهم، لكن تركوا مآثرهم مدفونه في ذاكرتي منذ الصغر. فصرت فيما بعد أُقدر فضائل هؤلاء الرجال، وقررت تدوينها للأهل، والمهتمين.
إنها قصة وفاء فريدة، لم نسمع عنها إلا في الروايات والآثار القديمة. علاقة جمعت بين جدٍّ وحفيده، هي أقرب الى الخيال من أي شيء آخر، تركت تلك العلاقة فيمن يعرفهما ذكرى، تعجز الأيام أن تمحوها. فمن الواضح أنَّ كل منهما كان يُشاطر الآخر في الكثير من الصفات، والمعاني، التي جمعت بر الصالحين، وكرم الأنبياء، والرجولة في أروع معانيها قد تجسدت في الجد وحفيده.
تهمة باطلة:
تعرَّض الشيخ صالح آل كثير، إلى تهمة باطلة، هو بريء منها إبان معركة (كنزان)، التي وقعت أحداثها في 15 شعبان عام 1333 هـ الموافق 15 يونيو من عام 1915م؛ إذ تعقّبه رجال عبدالله بن جلوي (الخُويَا) بغية القبض عليه، فتمكنوا من الإمساك به في إحدى الطرقات، لكنه استطاع الإفلات منهم وأخذ سلاح أحدهم وصار يهددهم مُطلقًا النار في الهواء، حتى اختفى عن أنظارهم.
ثم حاول الرجوع الى البيت فوجده محاصرًا بالرجال؛ فاتّجه إلى بيت سعد ابو قبيع أحد معارفه الأوفياء، فطرق عليه الباب وأخبره بما جرى له، وأنه يريد الاختفاء عنده إلى حين تمكّنه من الرحيل إلى الكويت، فرحب به قائلًا: “أرواحنا فداؤك يا أبا محمد”. مكث لديه يومين، أو ثلاثة، ثم سار تحت جنح الظلام إلى قرية البطالية، بترتيبٍ مسبقٍ مع أحد معارفه، ومن هناك رحل على ظهر ذلول إلى الكويت، وقد أوصى صديقه الشيخ حمد الجبر بعائلته، وكان الشيخ حمد رجلًا حكيمًا ووجيهًا مرموقًا، له مكانة في البلد قَلَّ أن تجد لها مثيلًا آنذاك. لم يطل بقاؤه في الكويت؛ إذ تلقى دعوة من الشيخ عبد اللطيف المانع –وقد كانت تجمعهما صلة رحم- للقدوم إليه في قطر، فاتجه إليه، واستقر في قطر أربع سنوات ثم عاد إلى الأحساء بعد أن عفا عنه ابن جلوي بوساطة من الشيخ عبد اللطيف المانع، الذي كان يتمتع بمكانةٍ وصيتٍ تجاوز حدود قطر إلى بقية إمارات الخليج.
عاد الشيخ صالح واستقر في الأحساء، ولكن لم يستقر بالُ ابن جلوي تجاهه؛ ففي يوم من الأيام اشترى اثنتين من الموالي (العبيد)، وبعد مضي عدة أشهر علم ابن جلوي بذلك، فاستدعاه طالبًا منه إحداهن، فقال له: “لقد بعتهما”، فغضب ابن جلوي، وأودعه السجن، وفرض عليه غرامة 1000 ريال؛ لقاء خروجه من السجن. ولمَّا علم الشيخ سعد القصيبي بذلك -وهو رجل كريم ووجيه وصديق للشيخ صالح- تقدَّم إلى ابن جلوي، ودفع له الغرامة وأطلق سراحه.
الجد وحفيده:
الشيخ صالح آل كثير، رجل اشتهر في مجتمعه بالوجاهة والكرم والشجاعة، هو ليس بالبدوي ولا الحضري، ولكنه كان شيئًا بين ذلك، إيمان راسخ بالله، وشيم عربية عالية، وكرم ليس له حدود. بيته كان ملاذًا للأيتام، ومرتعًا للضيوف والفقراء، فكما يُقال: عظمة الرجال تُقاس –فقط- عندما يتعاملون مع الضعفاء.
أما حفيده عبدالله، ذلك الشاب الرائع، فقد نشأ منذ صغره في بيت جَدِّه صالح، الذي يزخر بكل أصناف الفضيلة، حتى صار عبدالله رجلًا يافعًا، والحياة قد نشطت أمامه. فكلما تقدم في السن، ازداد نضجًا وتمسكًا بالاستقامة، وازدادت أيضًا مكانته في وجدان الناس.
عاش عبدالله وجده صالح، متحابين متلازمين لا يفترقا، يجمعهما البِر والوفاء والكرم، وسارا معًا على الدرب، الذي رسمته لهما العناية الإلهية باطمئنان وسكينة حتى افترقا، كان عبدالله بين أهله ومجتمعه، بارًا متسامحا، وممن يمشون على الارض هونا، ينثر البر والمودة فيمن حوله. بلغ به التأدب وحسن الخلق، -وهو رجل قد تجاوز العشرين- بأن يحمل عمّته الرضيعة بين ذراعيه يداعبها ولا يناديها إلا بعمتي.
ذات يوم مر على عَمّته الكبرى، قبل سفره الأخير، فوجدها تخيط الثياب بيدها، فحز ذلك في نفسه فوعدها بآلة خياطة. ولكن المشيئة الإلهية حالت دون ذلك. الغريب في الأمر أن الرجال في ذلك الزمان كانوا قُساة بعض الشيء على النساء، إلا إن عبدالله لم يكن كذلك أبدا ..! هل هو حالة استثنائية؟ لا أدري، ولكن هذا هو الذي جعلنا نجد فيه هذا الخُلق الرفيع والقيم العالية.
حدثني أحد اصدقائه المخلصين وقال: بأنه كان صديقًا مخلصًا يندر أن تجد له مثيلًا، رزينًا قليل الكلام، لا يتكلم إلا معقبًا أو مجاوبًا على سؤال. حتى رئيسه في العمل ناصر العساف، كان يُجلّه ويقدره، ويسند إليه الكثير من مهامه، وقد حزن حزنا كبيرًا عندما جاءه خبر وفاته.
عاد عبدالله من سفره إلى المستشفى بعد حادث مروي أليم، أصيب فيه إصابة بليغة في رأسه، فكاد جده أن يفقد صوابه بعد أن رآه يحتضر، وهو مسجى على السرير الأبيض. فجلس جَدّه على حافة السرير ينظر إليه النظرة الأخيرة، وقطرات الدموع تبلل لحيته، فالتفت إليه عبدالله، ومسح على لحيته قائلًا: “أرجوك لا تبكي يا جدي، جعل الله يومي قبل يومك”. لحظة الاحتضار، وسكرات الموت والنزع الأخير، لم تُنسِ هذا الشاب الرائع حبه وبره لجده. إنها العظة الجنائزية، التي تُعزي فيها الجنازة الطاهرة أصحاب العزاء.
أودع الجثمان القبر، وهو ينفث بروائح من القيم والمثل العليا. فتوفي عبد الله ولم يرَ خطيبته التي دفع مهرها، وعاشت ذكراه في ذاكرة جَدّه، الذي كان يردد دائما بأن في قلبي جمرة على فراق عبدالله، وكان يضع أصبعيْه في أذنيه، عندما يسمع صوت القطار، ذلك الصوت الذي كان يذكره بقدوم الحبيب عبدالله. وفد توفي الجد صالح بن محمد الكثير في فجر عيد الفطر من عام 1376.
رحم الله الحبيبين رحمة واسعة.