صالح الحليبي.. راوية الأحساء
نمط الجلسة عند الحلال، غالبًا ما يأخذ طابعًا معينًا، إلا في حالات استثنائية، وبالتحديد عندما يهبط صالح الحليبي ضيفًا على المكان، عندها تتحول الجلسة حول النار إلى حلقة واسعة تشبه في شَكْلِها حلقات الذكر…! تأخذ الحلقة في الاتساع، كلما ازداد عدد الحضور، بينما هو يتوسط المكان، ويتولى سرد قصص تزداد متعةً بالتكرار؛ وذلك لامتلاكه أسبابًا تجعل الناس تصغي إليه بمتعة وشغف؛ منها: إبداعه في حَبْك الرواية، ففي حركاته، وكلامه جاذبيّة أخاذة، ومن هذه الأسباب طيبة قلب، يسري أثرها إلى قلوب الحاضرين؛ لهذا استحقَّ أن يكون راوية الأحساء بجدارة. عيناه لونهما “تركواز”، وقد وَرِثه من أمه، فورّثه إلى أولاده، في ذقنه قليلٌ من شَعرٍ أصفر متفرق؛ يزيد وجهه بهاءً ونورًا. بشوش يطيل الترحاب بالناس، وتبدو عليه علامات الطيبة والصلاح. يتمتّع بحسِ دعابةٍ فريد ومتطور، ينثر الملحَ والنوادرَ اللطيفة بين من يحبهم ويحبونه وهم كُثر. كما أنه رجل كريم، تواق إلى المعاني والخصال الكريمة.
يروي لنا صديقٌ مشترك، سافر مع صالح وابنه إلى الجوف التي دأب صالح التردد عليها؛ بحكم عمله مهندسًا للمضخات في وزارة الزراعة. ومن المعروف أنَّ لصالح الكثير من المعارف هناك من الوجهاء وشيوخ القبائل. يقول صاحبنا: “عندما وصلنا الجوف صرنا في ضيافة صديق قديم لصالح، وعندما كُنَّا جلوس في بيته، بين مدعوين كُثر، على شرف صالح؛ إذ دخل علينا فجأةً شابٌ يسأل: من منكم صالح الحليبي…؟ فقال له صالح: نعم، أنا. فقال الشاب: إن أبي-حين حضرته الوفاة- أوصانا أنا وإخواني قائلا: إذا لقيتم صالحَ الحليبي فأكرموه إكرامًا يليقُ بالكرماء”.
ولا غرو؛ فهو ينتمي إلى أسرةٍ عَريقةٍ، عُرِفَ العديدُ منهم بالشهامة والكرم. والده (علي) كانَ رجلًا مُعتبرًا، وشاعرًا مفوهًا يُكنَّى بـ “جرير”، كان يحدق النظر -بعينين حادتين- في الجالسين أمامه؛ كالمتعجب من تباين أشكالهم. له مواقف عديدة تبرهن على قوة شكيمته، ورجاحة عقله أمام من يحاول التطاول عليه؛ فحينما كان يعمل في الخرج، اعتدى عليه أحد أخويا الأمير، وذلك بدفعه من الخلف على غفلة وهو يصلي؛ بسبب أنَّه تأخر عن الحضور إلى المسجد، فأكمل صلاته والغضب يمور في صدره، ثم لما فرغ من الصلاة؛ لقن الخوي درسًا بإشباعه ضربًا وركلًا، أمام مرأى ومسمع أقرانه. فأنشد أبياتًا منها:
يا الله يا عالم بكلِ ما كان أنت الذي تعلم بسود الليالي
افرج لقلبٍ زايدٍ في طوفان هم ثقيل ثقل طعوس الرمالي
ذاكر فعل فعالي في ظيبان مطقوق وانا في صلاتي كمالي
وطقني رجلٍ تقوى بسلطان وافهموا يا سامعين المقالي
وقالوا تهيّد قلت أنا القلب قهران قصدي طق اللي سعى بغث بالي
جيته وهو بين ربعه وشبان متغطرفٍ يمشي وعقاله ميالي
وأنا ضربته يا النشامى بسفطان قالوا الحساوي طق عبد جمالي
وتلافتوا علي ربعه بعصيان وضربت فيهم ضرب حامي اعجالي
وتفاهقوا عني وللدرب ميدان ومن شاف فعلي قال ذا من رجالي
قال امسكوا الرجال ذا جاي فتان وجاني الأمير من وراي بختالي
حين مسكني شاين الوجه غضبان قال اكتفوه بزود رصوا الحبالي
جيت بمحلي وجلسوني بحقران وجابوا الخضر قلت ايه واحد لحالي
عقب هذا جيت في وسط ليوان جابوا الحديد وقيدوني غلالي
أمسيت لين القلب كن فيه ضيان واصبحت كني ضايع مهملاني
جيت الأمير وقلت له بعض الأفنان اطلق حديدي قال قرب مكاني
من شاف وجهي قال ذا جد حيران ما ذل يومن شاف كثر الرجالي
جيت الهل العليا جماعة وإخوان مير الحكم ضافي على كل عالي
نظرت ليمنه لغابن سليمان وكتبت خطي بالعجل واحتيالي
حين بدا يقراه امومي بالأفنان وبلغ كلامي للملك باعتدالي
قال الملك يا هل الليلة بزجران بالعون لمحيزكم ما هيالي
طقوا رجال من حساب خدام مبتدي منكم بعد تم تالي
قالوا عثا فينا وجانا بشيطان وليه سلاح كان ذبح عيالي
كذلك زار مصر وعبّر عن مشاهداته بقصيدة ظريفة:
جينا مصر ثم سكنا بزمــالك والنيل فيه ناس دايم يعبــرون
وفي جاله الأشجار وظل متدالق ومتعلمين أهل البلد فيه يمشون
وحتى أكلهم دايم بالمعالق وأنا افتكر يا ناس هم بيشبعون؟
والدرج فيه البلاط المزالق ولا أقدر أسرع فيه ممشاي بالهون
وفيها البنات اللي صدورها مبالق ومن عادة الإسلام لازم يسترون
وفيها اختلاط قريب للملابق الله وأعلم بالذي هم يسوون!!
أما صالح فلقد كانَ بارًّا بوالِده، ولديه رغبة في الاختباءِ وراء الهيبة المبجّلة لأبيه. على العكس من والده، لصالح ملامح وديعة، وتغشى وجهه ابتسامة متمهلة، شفته العليا المقببة تكشف عن أسنانٍ بيضاء، ولثّةٍ ورديةِ اللون. حين يضحكُ تفيض ضحكتُه، فيتلقفها بين راحتيْه. عمل مهندس مضخّات، لدى وزارة الزراعة، فاكتسب خبرة، تراكمت ببطءٍ على مدى سنوات عديدة، فأصبح بارعًا، ومبدعًا فيما يقوم به. فمهنته التي فرضت عليه تكرار السفر، جعلته يَتعرّف على العديد من رموز القبائل، والعشائر في أنحاء المملكة، تُسعفه أريحيته، وحاجتهم الماسة إلى مهنته في استخراج الماء. صالح لا يتصنع الظرف، أو خفة الظل، بل هي في طبيعته. أحياناً عندما يزور صديقاً له ولا يجده يترك له “مارية”؛ أي علامة، وهي عبارة عن حبلٍ طويلٍ، يطويه على بابِ المنزل أو السيارة، أي أنني جئت ولم أجدك…! في أحد الأيام قابله أخي عبد الله في سوق الغنم، فسلَّم عليه فوجده متجهما على غير العادة، ثم عاد بعد قليل، وسلم على عبد الله مرة أخرى، فقال له عبد الله مستغرباً: “لقد سلمتُ عليك من قبل” فردَّ عليه صالح: “نعم، أنا أعلم ذلك، ولكنِّي في المرة الأولى كنت “مُقلدم” أي مُبرطم …!” كما أنه يجمع بين الدبلوماسية، وخفة الدم؛ خُصوصًا في التخلّصِ من بعض المواقف الحَرجة بطريقة لا تخطر حتى على بالِ عتاة الدبلوماسية في العالم. ففي قصةِ زواجه الثاني -بعد وفاةِ زوجته- شاهد على ذلك، حيث كان قد استخرج تأشيرةَ موافقة(فيزا) بغرضِ الزواج من سوريا، فعلم أقرباؤه، فضغطوا عليه من أجلِ الزواج مِن امرأةٍ حساوية، هي فيما مضى أرسلت زوجين إلى المقبرة في بضع سنوات…! والأهم من ذلك كبيرة في السن، وقد فقدت جميع مفاتيح الإغراء، ولديها أولاد كثر…! فلم يجد صالح مخرجاً من هذه الورطة، أو ربما الكابوس، وهو يحلم بفتاةٍ سورية صغيرة وشقراء…! فالتفتَ إليهم بعد أن أكملوا حديثهم وإلحاحهم، فرفع حاجبيه، ومطّ شفتيه واضعًا كفيه امام صدره على شكل ورقة وقال: بَسْ للأسف، انا الان ما اقدر انا عندي فيزا..! أي ليس لدي مانع من الزواج منها لو جأتموني قبل ذلك، ولكن الآن قد سبق السيف العذل…! فتملص من ذلك الزواج مثل الشعرة من العجين.
عندما يبدأ في سردِ القصة، يُحدِّق النظرَ بعينين صغيرتين يراقب بهما المستمعين، من دون أن يشعر به أحد؛ ليتأكد من أنَّ الجميعَ يتابع، وإذا أراد جَسّ نبضِ المتابعين، يُلفّق كذبة في ثنايا القصة فمن يَكتشفها يفوز برضاه…! كما حَدثَ مع عبداللطيف الموسى، حيث كان صالح يروي قصة “حظوظة” وهي أرض سبخة في الشمال، يُقال “إذا دخل فيها أحد تلتهمه لأن تربتها رخوة” يقول صالح : “كنت راكبًا بجانبِ معاونٍ لي، يقود السيارة، فلم ينتبه السائقُ بأنه على مرمى حجر من “حظوظة” بسبب انعكاس أشعة شمس المسيْان في وجهه، فصحت بأعلى صوتي على السائق: “حظوظة … حظوظة …” ورميت بنفسي على مقود السيارة، فانحرفت باتجاهٍ آخر بعيدًا عن منطقة الخطر. فلما هَدأ الموقف وانقشع الغبار قلت له: “مجنون انت …! بغيت تودينا في داهية، بلاك ما تدري عن حظوظة انها تلتهم البعارين والسيارات … ” ثم انطلقنا في طريقنا، وقصدنا قريةً على الطريق؛ فيها أحد شيوخ الشمال يُدعى (غريْس الثريا) فرحّب بنا، وكان رجلًا كريمًا وصديقًا ودودًا، فعرضَ علينا العشاء، والمبيت، فاعتذرت منه، لكن الرجل أصرّ، ولكي يقطع عليَّ الطريق، ويضمن قبولي لضيافته، أدخل يده في جيبي وأخذ مفتاح السيارة…! فاعترض عليه عبد اللطيف في الحال سائلًا: “ما الذي جاء بمفتاح السيارة في جيبك ولم تكن أنت السائق…!” فوضع كفيْه على فمه، وهو يضحك بضحكة مكتومة، وينظر إلى عبد اللطيف بإعجاب؛ لاكتشافه الكذبة التي كان الهدف منها جس نبض المتابعين.