كيف تجعل السعادة تنطح بابك؟
تعجبني أريحية أَخَوَيَّ في التعامل مع الرعاة، حيث يجلسان معهم دون مفهوم السيد والخادم، ولعلَّ هذه إحدى فضائل مهنة رعي الغنم، في وجدان أصحابها، فالأوامر مسبوقة بعبارات التودد، وهم ينفذونها بكل امتنان، فما يُمارسه عبد الله وعبد الوهاب مع الرعيان يُغني عن الكثير مما يُقال ويكتب عن التعامل الإنساني.
لهذا لا يمكن أن يغيب عن مخيلتي الراعي محمد حمد، الرجل المبتسم دومًا، والمقبل على الحياةِ بقناعةٍ ورضى عفوي، ولا غرابة فمهنة الرعي -بحد ذاتها- كفيلة بأن تجعل السعادة تنطح بابك!
رأيته أول مرة في أوائل الخريف من عام 1999م، عندما كان الحلال على طريق العقير، كان وحيدا مع الأغنام، يجوب الفيافي والوديان، تراه من بعيد هو والقطيع عبارة عن كتلة سوداء تزحف ببطءٍ، بينما هو جالسٌ بجانب الحمار يراقب ومن حوله المراييع.
جلسنا -أنا والأخَوان- في انتظاره عند العربة التي ينام فيها، كان طيفه من بعيد يرقبنا، ويوحي بأنه كان مستبشرًا بقدومنا، ثم أقبل علينا، وهو على حماره يحمل بين ذراعيه طِليًّا ولد حديثًا، بينما أمه كانت تهمهم، وتسير خلف الحمار، كان يدنو مِنّا بعمامته، وبثوبه الفضفاض، وقرص الشمس يُلامس الأفق من ورائه.
هذا المشهد السريالي استقرَّ في ذهني، وطاف بمخيلتي إلى زمن الأنبياء والرسل، تخيلته عزير الذي ذُكر في القرآن، أو أحد الشخصيات التوراتية التي وردت في الإسرائيليات! فهذه الصورة تمتلك أسبابها التي تجعلنا نتخيلها منذ آلاف السنين.
عندما أصبحَ على بضعِ أمتار مِنَّا، استعان بساقيْه الطويلتين؛ للنزول من على الحمار، وترك الشاة وحملها الصغير، الذي كان يُحاول الوقوف، بغيةَ التمكن من ضرعها، بينما هي انشغلت تلعقه من رأسه حتى رجليه. أقبلَ علينا مُبتسمًا وصافحنا بحرارة، وهيئته تشع بالقناعة والرضى، وأشعل النارَ وبدأ في إعداد القهوة وهو مسترسلاً في الحديث والمرح. فاجأني عندما أخرج من كيس العلف حفنة من الدقيق! فكوّمها على طرف الكيس، وسكب عليها قليلًا من الماءِ، وشرع في عمل خبز البر، جهّز عجينة الخبز ثم دسّها بين الجمر والرماد! تركها للحظات، ثم أخرجها من تحت الأنقاض! وضربها بيده عدة مرات؛ ليزيل الركام العالق فيها، ثم قدمها لنا، وقال: “بسم الله” فسألت الأخويْن بتعجب: “هل سنأكل نحن من هذه الخبزة؟” فهزوا رؤوسهم بالإيجاب، فقلت لهم: “كنت أظنه يريد أن يعطيها الشاة ليخفف عنها آلام الولادة”. فضحك الجميع، وأكلنا خبزةً محشيّة رملًا، وبنكهة الرماد.
ودّعْنَا محمدًا، وتيقّنت بأنَّ مَن ينظُر لفعلِ الأخويْن عبد الله وعبد الوهاب بأنه مجرد رعي أغنام، هو كمن يحكم على ظاهر الأشياء، دون الوصول إلى الأعماق.