جون بول (John Bull) أسطورةٌ تحتضر…!
“جون بول” صورة تَخَيّليّة لشخصيةِ الرجل الإنجليزي، ابتكرها الطبيب والرسام الأسكتلندي ديفيد اربثنوت (David Arbuthnot) ظهرت لأول مرة عام 1712 م، كصورة نمطية لرجل أنجلوسكسوني. في الماضي كان من السهل أن تُمَيّز الإنجليزي من غيره من حيث العادات والتقاليد واللباس، وانتمائه الى الكنيسة الإنجليزية المختلفة عن غيرها، والأبرز هو وضوح العِرق الأنجلوسكسوني بصورٍ متعددة، ناهيك عن لغتهم التي أصبحت فيما بعد لغةً كونية. فعلى الرغم من طغيان العرق الأنجلوسكسوني في عهد الملكة فيكتوريا، التي أعادت الحياة إلى هذا المصطلح؛ إلا أنَّ الشخصية الإنجليزية لم تتأصَّل عبر عِرقٍ، بل من خلال عدة حقب من الزمن، فتطورت بعد أن عركتها الأيام.
لقد نهلت من الثقافات الأخرى، حتى صارت لها سَوَاقٍ وأنهار، ثم انصهرت لتصبّ في معين واحد، وتَجَسّد منها الرسم الكاريكاتيري الذي سُمّي بــ (جون بول) وهي شخصية تخيلية لبَطلٍ إنجليزي على غرار (أنكل سام) لدى الأمريكيين. إلا أنَّ شخصيةَ (جون بول) ترمز إلى شخصيةِ تاجرِ سوقٍ، وليس كَمَا يتبادر للأذهان بأنها مستوحاة من شخصية قريبة من طبيعة الإنجليز؛ كشخصيةِ بحارٍ أو عالمٍ أو أحدٍ من النبلاء مثلا. وهذا يفسر مقولة نابليون في وصفهم (شعب الدكاكين الصغيرة)؛ لذا ظهر (جون بول) بملامحِ تاجرِ سوقٍ كتومٍ لا يُفشي ما يدور في ذهنه، بل يتريّث ويفكر مليًا قبل أن يُجيب. واثق من نفسه، يتكيف مع تقلبات السوقِ من دون أن تتأثّر مكانته الاجتماعية. له شدقين منتفخين تميل إلى الحمرة، إذا تكلم يلويهما بغية التحذلق في الكلام. يتكئ على عصا ويرافقه كلب من نوع (بول دوق) قريب الشبه منه…! إذا أضُطر (جون) يشد الحزام ويضغط على كرشِه؛ ليوفر قليلا من المال…! مزاجه يعلو ويهبط مع النشرة الجوية، يؤمن بالحرية الشخصية وباحترام القانون. شخصية أقرب إلى الرجل الإنجليزي في العصر الفيكتوري، أو على الأقل إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، حيث تلاشى النسق الموضّح لتلك الشخصية تماما مع بداية التسعينات من القرن الماضي.
الآن قد تَغيّر كُل شيء في إنجلترا، فلو تَقَمّص شخصٌ ما هذه الشخصية بمظهرٍ مُتَعجرف، وبحذاءٍ لماع، ويرتدي معطفًا كلاسيكيًا (تويدي) لربما نظر إليه الناسُ باستغراب…! فكُلّ شيءٍ قد تغيّر الآن، اختفت تمامًا العلامات التي تميز هذه الشخصية. بل حتى رموز هذه الشخصية اختلفت؛ فبعد أن كانت لسياسيين أو دبلوماسيين يجوبون العالم؛ ليعطوا الأوامر لقادة الشعوب، صارت لمغنين، ولاعبي كرة، أو كتاب.
لقد كانوا مهذبين رزينين، وأيضًا مُتحفّظين ميالين إلى الانزواء ولا أحد يعرف كيف جاءهم هذا الحِسّ العالي من البراجماتية…! مع ذلك كانَ لديهم قدرة عجيبة على الصبر والجَلد، وخير مثال على ذلك ما قاله تشرشل عندما كانت لندن تقصف في الحرب العالمية الثانية: “إنها أجمل ساعة في تاريخ بلدنا”. أيضاً لدى الانجليزي صبر على الشهوات، فمن الممكن أن يأوي الواحد منهم إلى فراشه ويحتضن كَمَّادة حارة بدلا من امرأة…! ومع ذلك فالشعب متصالح مع الطبقية في المجتمع، طالما أن هناك قانونًا وهامشًا من الحرية والمساواة التي يعتبرونها قيمًا إنسانية، يتباهون بها أمام شعوب العالم. لكن اليوم بعد أن فقدوا الامبراطورية وتصدعت بريطانيا من الداخل وضعفت تجارتها الدولية، وكما برز لديهم سجال حول الانضمام إلى الاتحاد الأوربي…؟ فقد برز لديهم سجال مكرر بعد الخروج من الاتحاد الأوربي؛ فالمؤيدون للبقاء يقولون: “هذا هو الخيار الوحيد والمتاح بين يدينا”. أما الآخرون فيرون نجاحَ الاتحاد الأوربي سيجعل من بريطانيا مجرد حشو زائد عن الحاجة.
–