تحميل…
  • 21/8/2022 شوهدت شهب في سماء حائل والقصيم والدوادمي والمدينة يعنقد بانها حطام لينزك وسمعت اصوات لانفجارات ولم يحدد مكانها
  • 1 اغسطس 2022 هطول امطار على الاحساء
  • 9 اغسطس 2022 امطار على سدوس والقرينة وضرما
  • 5 اغسطس امطار ورعود ضربت مدينة الرياض
  • 1 اغسطس امطار ورعود ضربت الرياض
  • 6 اغسطس 2022 سيول وادي حبونه تصل الى الربع الخالي
  • 15 اغسطس 2022 امطار و سيول مستمرة في المدينة المنورة منذ 12 يوم
  • 27 اغسطس 2022 امطار غزيرة وسيول على الامارات وعمان واليمن خلفت اضرار في الممتلكات
  • 28 اغسطس 2022 غيوم كثيفة على الرياض وبقية مناطق الممكة وتوقع هطول اممطار غزيرة ودرجة الحرارة العظمى 39
  • توفي العم عبدالعزيز بن عبدالوهاب بن صالح الموسى (أبو عمر) يوم الاحد 18/3/1427 عن عمر ناهز 69 عاماً رحمه الله تعالى
  • توفي الشاب محمد بن عبدالعزيز الموسى (الاول) في الثاني عشر من شعبان سنة 1410 وولد اخيه محمد (الثاني) في السابع من ذوالحجة سنة 1411
  • تاريخ ولادة الجدة مريم بن عبدالله بن عبدالعزيز العفالق سنة 1300 هجرية طبقاً لما كان يعرف حينها (تذكرة النفوس) رحمها الله تعالى
  • في صبيحة هذا اليوم السابع والعشرون من شهر يونيوه سنة 2022 رزق الابن راشد مولودة اسماها صيتة نسأل الله لها الهداية وان يجعلها قرة أعين لنا
  • توفي الرجل الكريم الوجيه الشيخ عبدالله بن محمد ال الشيخ في 30/3/1424 رحمه الله تعالى
  • توفيت الخالة دلال بن عبدالله الغردقة في الواحد وعشرين من شهر ذو القعدة سنة 1421 رحمها الله تعالى
  • تاريخ ولادة الجدة حبيبة بن عبدالله الغردفة سنة 1330 هجرية طبقاً لما كان يعرف حينها (تذكرة النفوس) رحمها الله تعالى
  • توفي الجد صالح بن محمد الكثير رحمه الله تعالى في فجر يوم عيد الفطر المبارك من عام 1376 هجرية
  • في تاريخ 28/12/1992 سجل الوالد في يومياتة اعلا معدل هطول امطار في يوم واحد حسب محطة غرب مطار الاحساء بلغت 91 ملم
  • حج الوالد عبدالرحمن الموسى (ابو عوف) لاول مرة عام 1363 هجرية وهي الحجة الاولى التي خرجت من الاحساء بالسيارات
  • العم محمد بن احمد بن عبداللطيف الموسى 1310-1406 رخمه الله تعالى
  • العم عبدالرحمن بن عبدالوهاب بن عبدالرحمن الموسى (العمدة) 1919-2006 رحمه الله تعالى
  • ومن عرف الايام معرفتي بها وبالناس ... روّى رمحه غير راحمِ
  • دخلت الكهرباء لاول مرة في بيتنا في حي العيوني في 22 محرم 1381 بتكلفة بلغت 560 ريال
  • العم الشيخ حسين بن عبدالرحمن الموسى رحمه الله تعالى 1285-1366
  • توفي ابن الخال الغالي عبدالرحمن بن سعد الغردقة في 23 سبتمبر 2021 رحمه الله رحمة واسعه
  • في 11 يناير 2020 توفيت امي (من الرضاعة) فاطمة الحادي رحمها الله رحمة واسعة
  • في الرابع من تشرين الثاني من عام 2020 رحل عنا الرجل النقي التقي الدكتور سعد بن عبدالله البراك رحمه الله رحمة واسعة
  • هطلت امطار غزيرة غير متوقعه في يوم الاربعاء 22 يوليو من عام 2020 على الرياض والاحساء وبعض مناطق المملكة
  • توفيت أمي هيا بنت صالح بن محمد ال كثير رحمة الله عليها الساعة 15 :3 من فجر يوم العاشر من شعبان لعام 1438 هجرية الموافق السابع من شهر أيار لعام 2017 ميلادية
  • #تلاوة من #القران_الكريم للوالد رحمه الله تعالى

جون بول (John Bull) أسطورةٌ تحتضر…!

جون بول (John Bull) أسطورةٌ تحتضر…!

 

“جون بول” صورة تَخَيّليّة لشخصيةِ الرجل الإنجليزي، ابتكرها الطبيب والرسام الأسكتلندي ديفيد اربثنوت (David Arbuthnot) ظهرت لأول مرة عام 1712 م، كصورة نمطية لرجل أنجلوسكسوني. في الماضي كان من السهل أن تُمَيّز الإنجليزي من غيره من حيث العادات والتقاليد واللباس، وانتمائه الى الكنيسة الإنجليزية المختلفة عن غيرها، والأبرز هو وضوح العِرق الأنجلوسكسوني بصورٍ متعددة، ناهيك عن لغتهم التي أصبحت فيما بعد لغةً كونية. فعلى الرغم من طغيان العرق الأنجلوسكسوني في عهد الملكة فيكتوريا، التي أعادت الحياة إلى هذا المصطلح؛ إلا أنَّ الشخصية الإنجليزية لم تتأصَّل عبر عِرقٍ، بل من خلال عدة حقب من الزمن، فتطورت بعد أن عركتها الأيام.

لقد نهلت من الثقافات الأخرى، حتى صارت لها سَوَاقٍ وأنهار، ثم انصهرت لتصبّ في معين واحد، وتَجَسّد منها الرسم الكاريكاتيري الذي سُمّي بــ (جون بول) وهي شخصية تخيلية لبَطلٍ إنجليزي على غرار (أنكل سام) لدى الأمريكيين. إلا أنَّ شخصيةَ (جون بول) ترمز إلى شخصيةِ تاجرِ سوقٍ، وليس كَمَا يتبادر للأذهان بأنها مستوحاة من شخصية قريبة من طبيعة الإنجليز؛ كشخصيةِ بحارٍ أو عالمٍ أو أحدٍ من النبلاء مثلا. وهذا يفسر مقولة نابليون في وصفهم (شعب الدكاكين الصغيرة)؛ لذا ظهر (جون بول) بملامحِ تاجرِ سوقٍ كتومٍ لا يُفشي ما يدور في ذهنه، بل يتريّث ويفكر مليًا قبل أن يُجيب. واثق من نفسه، يتكيف مع تقلبات السوقِ من دون أن تتأثّر مكانته الاجتماعية. له شدقين منتفخين تميل إلى الحمرة، إذا تكلم يلويهما بغية التحذلق في الكلام. يتكئ على عصا ويرافقه كلب من نوع (بول دوق) قريب الشبه منه…! إذا أضُطر (جون) يشد الحزام ويضغط على كرشِه؛ ليوفر قليلا من المال…! مزاجه يعلو ويهبط مع النشرة الجوية، يؤمن بالحرية الشخصية وباحترام القانون. شخصية أقرب إلى الرجل الإنجليزي في العصر الفيكتوري، أو على الأقل إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، حيث تلاشى النسق الموضّح لتلك الشخصية تماما مع بداية التسعينات من القرن الماضي.

الآن قد تَغيّر كُل شيء في إنجلترا، فلو تَقَمّص شخصٌ ما هذه الشخصية بمظهرٍ مُتَعجرف، وبحذاءٍ لماع، ويرتدي معطفًا كلاسيكيًا (تويدي) لربما نظر إليه الناسُ باستغراب…! فكُلّ شيءٍ قد تغيّر الآن، اختفت تمامًا العلامات التي تميز هذه الشخصية. بل حتى رموز هذه الشخصية اختلفت؛ فبعد أن كان لسياسيين أو دبلوماسيين يجوبون العالم؛ ليعطوا الأوامر لقادة الشعوب، اصبح هذا الدور لمغنين، ممثلين٬ لاعبي كرة، أو كتّاب.

لقد كانوا مهذبين رزينين، وأيضًا مُتحفّظين ميالين إلى الانزواء ولا أحد يعرف كيف جاءهم هذا الحِسّ العالي من البراجماتية…! مع ذلك كانَ لديهم قدرة عجيبة على الصبر والجَلد، وخير مثال على ذلك ما قاله تشرشل عندما كانت لندن تقصف في الحرب العالمية الثانية: “إنها أجمل ساعة في تاريخ بلدنا”. أيضاً لدى الانجليزي صبر على الشهوات، فمن الممكن أن يأوي الواحد منهم إلى فراشه ويحتضن كَمَّادة حارة بدلا من امرأة…! ومع ذلك فالشعب متصالح مع الطبقية في المجتمع، طالما أن هناك قانونًا وهامشًا من الحرية والمساواة التي يعتبرونها قيمًا إنسانية يتباهون بها أمام شعوب العالم. لكن اليوم بعد أن فقدوا الامبراطورية وتصدعت بريطانيا من الداخل وضعفت تجارتها الدولية، فبرز بينهم سجال حول الانضمام إلى الاتحاد الأوربي…؟ ثم سجال مكرر بعد الخروج من الاتحاد الأوربي؛ فالمؤيدون للبقاء يقولون: “هذا هو الخيار الوحيد والمتاح بين أيدينا”. أما الآخرون فيرون نجاحَ الاتحاد الأوربي سيجعل من بريطانيا مجرد حشو زائد عن الحاجة. لذا صدمت نتيجة الاستفتاء في ٢٣ يونيو ٢٠١٦ شريحة واسعة من الشعب معلنةً خروج بريطانيا باستحياء ومن الباب الخلفي للاتحاد الاوربي الامر الذي ادخلها في مرحلة من الغموض اتفق الجميع حوله.

 

الايتيكيت يطغى على الحقيقة و المنطق ..!

من مسافة آمنه تعودت أقط اذني (استرق السمع) ادون احياناً ما يدور بينهم من موضوعات لها انماط ثابتة و متكررة اثناء الحديث او (الدردشه) في المقاهي والمطاعم والقطارات والحفلات بين الرجال و بين النساء و بينهم مجتمعين. فمع مرور الوقت استطيع ان ادعي بأن هناك اشبه ما يكون بميثاق خفي غير مكتوب اعتادوا عليه عبر اجيال فصار رتم متكرر ينحكم في العقل الجمعي بين جميع أطياف و طبقات المجتمع. وبكل تأكيد هذا لا ينفي وجود تباين بين تلك القواعد ولكن ما نحن بصدده هو تلك السمه الغالبة.

بطبيعة الحال لا يقتصر هذا الامر على الانجليز ليسو وحدهم بل معظم الشعوب لديهم هذه الخاصية لكنها تحتاج الى المشاهدة و الرصد المتواصل لممارسات لتلك الشعوب. كبقية شعوب العالم لدى الانجليز ايحاءت و ممارسات ضمنية تثير رد فعل تلقائي بدلاً من اشارات الوعي. فعلى سبيل المثال في الرياض معظم الاحيان قيادة السيارة تعتمد على اشارات ضمنية٬ فبدلاً من يعطي السائق اشارة تجده يهدي السرعه قليلاً و يميل الى الجهه المقصوده او ربما يشطف كتف الطريق ثم ينعطف يمين او يسار٬ قد لا يفهم هذه الاشارة غير اهل البلد او من عاش بينهم.

مع ذلك البعض من تلك الممارسات اصبحت مستقرة ولم تعد حكراً على مجتمع بعينه فتحولت الى اعراف نتيجة العولمه والانفتاح الثقافي و حملت صفة العالمية مثل احترام الطابور٬ استعمال الرموز التعبيريه في الجوال (Emojis)٬ و الإتيكيت في الاكل واللبس. ولكن الحديث عن (الدردشة) عن الانجليز على وجه الخصوص او كما يقال عندنا (السواليف) اي الكلام الغير رسمي الذي لا طائل من ورائه. فلاحظت بأن هناك قواعد او اساسيات لهذا النوع من اللقاءات سواء كانت في البيت او المطعم او المقهى او حتى حديث جانبي على قارعة الطريق مع احد الجيران. فهناك اصول متعارف فيها بينهم فمن غير المقبول لديهم النقاش الحماسي او الجدي و بطبيعة الحال اعطاء الاخرين الشعور بالتفاخر او التعالي. بل على العكس الانجليزي يحاول دائماً ينتهج اسلوب (الانكار على سبيل التواضع) لا يحب ان يبدو ذكياً او ثرياً او ماهراً في شيء وإن كان في الواقع هو كذلك٬ هذا الامر يجعل له قبولاً وارتياحاً لدى من هم حوله. كما ان الانتقاد المباشر مألوف في هذا النوع من اللقاءات ولكن قواعد واصول الرجولة تقتضي ان لا يكون حاداً او شخصياً او بصوت عالي وان لا يتعدى الحدود المسموح بها في هذا ألاطار من (الطقطقة)

 

الخصوصية:

يضع الإنجليز في بيوتهم حديقة أمامية، وخلفية، ولا أذكر أن أحدا من جيراني قد جلس في حديقته الأمامية مثل بقية شعوب أوروبا، على الرغم من عنايتهم الفائقة بحديقتهم الخلفية المخصصة للجلوس٬ وهذا قد يندرج من ضمن الخصوصية المقدسة عندهم. و من ابرز ما اكتشفت أن الإنجليزي إذا دخل بيته يوصد بابَه دون أن ينظر وراءه ثم يختفي عن الأنظار، ولا يَظهر للعيان إلا إذا خَرجَ من المنزل للعمل أو لمشوار محدد؛ لذلك تُشاهد أحيانا  قصور جميلة في الريف الإنجليزي، لكنها تبدو مندسة أو متوارية عن الأنظار من خلف الأشجار، تجدها ساكنة مندسة لا تصرّح بوجودها علانية إغراقًا في التواري عن الأنظار…!

ظاهرة الانزواء من السلوكيات الإنجليزية التي تضايق الشعوب الأخرى؛ فيَعدونها انعزالا وانطواءً فحسب، لكن مَن عرفهم أدرك أن تلك السلوكيات رغبة في الدفاع عن الخصوصية، ولهذا هم يتوجسون من الآخر، ولا يمكن أن تعرف تقبل الإنجليزي للآخر، إلا إذا دعاه إلى مشروب أو أعطاه بطاقة الأعمال (BUSINESS CARD) وحينها يكون الحاجز قد انكسر، عندها ينطلق الإنجليزي للتعرف أكثر على الآخر. فهو لا يفصح عن هويته إلا إذا رغب في ذلك وعند الضرورة. لذا تجد الواحد منهم إذا أراد مخاطبة موظف استقبال في فندقٍ ما، فإنه يهمس باسمه؛ كي لا يسمع باسمه أحد…! ربما اذا  أردت أن تعيش مقبولًا بينهم، تظاهر بعدم الاكتراث وإلا سوف تتعرض دائمًا للإحراج بسبب مبادراتك الغير محسوبة.

 

عدم الاكتراث … لا تكن ملفتًا للنظر …!

 عندما باشرت عملي عام 1998م، على وظيفة (الملحق البحري في بريطانيا) قررتُ السكنَ خارج لندن، -وتحديدا في قرية (كلانفيلد) التابعة لمقاطعة هامشير- فلامني البعض؛ لأنهم يرون أن المكان المناسب هو حي (أكتون)؛ لقربه من أكاديمية الملك فهد، ويقطنه معظم السعوديين، ولأن قرية (كلانفيلد) تبعد مسافة ساعة عن مقر العمل.

حي أكتون – ببيوته المتشابهة الصغيرة والمتراصّة- أصبح نسخة مشوهة لحي إنجليزي، علاقته بلندن علاقة مكانية فحسب؛ إذ قد تحول مع الوقت إلى أشبه بحي عربي، معظم سكانه من العرب، لهذا ربما أكون ثاني شخصٍ أقدم على تجربة السكن والعيش في حي إنجليزي صرف، بعد زميلي صالح الربدي، الذي كان يسكن في سولزبيري. صالح رجل خلوق جدًا، ومن عائلة مرموقة وعريقة في القصيم، أما زوجته فهي امرأة فاضلة من أصل إسكتلندي، اعتنقت الإسلام قبل زواجها من صالح. كذلك الزميل و الصديق الدكتور عبدالرحمن السميح الذي كان يحضر الدكتوراه و يسكن في ساوتمبتون.

في الأشهر الثلاثة الأولى عانيت كثيرًا من كسر الحاجز مع الجيران، محاولًا الظفر بصديقٍ واحد على الأقل،  بيتي الاخير من بين من ١٦ بيت في شارع فرعي ضيق نهايته (سكة سد) فلو قابلت أحدًا منهم لظننته أصمًّا، فهو لا يلتفت ولا يكاد يرفع عينيه عَمّا هو أمامه سوى الصحيفة التي يقرأها. بينهم تجانس عجيب كأنهم جميعًا ينتمون إلى مدرسة واحدة في الطباع. يتوارى الإنجليزي عن الناس بقدر ما يستطيع، فليس من عادة الجيران تبادل الأحاديث الودية على ناصية الطريق كما هو الحال بالنسبة لبقيةِ الشعوب الأوربية، ولا يَجلسون في حديقةِ البيت الأمامية على الرغم من عنايتهم الفائقة بها، بل يُفضّلون ممارسة ذلك في الحديقة الخلفية لمنازلهم حيث تكون اللقاءات محصورة على المدعوين فقط.

بوجهٍ عام الإنجليز لا يهمهم إن كانوا شعبًا محبوبًا أم لا…! ولا يعنيهم رأي الشعوب الأخرى تجاههم، سواء كان سلبًا أو إيجابًا…! فلا يُبادرون بالسلام إلا لمن يعرفون، وإن بادرت فينظر إليك باستهجان، كأنك تطلب منه شيئا. استعنت بالكتب؛ للتعرف على ثقافتهم، ولكن ظهر لي أنهم يكتبون عن الشعوب الأخرى ماعدا شعبهم؛ ربما نوع من الثقة بالنفس، أو من مبدأ أنَّ المعروف لا يُعرَّف…! لهذا لم أجد إلا كتابا واحدًا اسمه (English treats)، لمؤلِف أمريكي هو الفيلسوف ولدو أميرسون (Ralf Wldo Amerson)، إلا أنه لم يَرق لي؛ حيث خصص عشرين صفحة للثقافة الإنجليزية، ملأها بالمديح المبالغ فيه، وقد قال بعضهم: إن سبب ذلك هي أصوله الإنجليزية.

في الأشهر الأولى كنت أتعجب من حالة عدم اكتراث جاري السيد (جيف)، بوقوفي أمام بيتي، اللصيق ببيته، فحين يركن سيارتَه، نظل وقوفا بعض الدقائق، لا تفصلنا سوى خطوات، لكنه ينهمك في حمل أكياس التسوق، غير ملتفتِ لي، حتى بنظرة مُختلسة…! وهو فيما عرفت لاحقا، لم يكن مُتعمِدًا، فهناك ظاهرة اسمها عدم الاكتراث، أو التَمنع في الثقافة الإنجليزية، وأيضًا رفع الصوت والسلام من بعيد أمر غير معتاد لديهم، وأن تُحدِّق بنظرك إلى شخصٍ آخر مباشرة بلا سببٍ قوي يُعد في ثقافتهم تصرفًا عدائيًا.

من معايشتي لهم لا يوجد شيء يكسر الحاجز، ويُذيب الثلجَ غير ان تطلب المساعدة. فالدخول في حوار مع الانجليزي يتطلب سببًا مقنعًا، وهذا الذي اكتشفته بمحض الصدفة مع الجار (جيف) الذي تجاوز السبعين آنذاك، حيث لم يتأخر في تقديم المساعدة حين كنت مسافرًا واتصلت به زوجتي في وقت متأخر من الليل لإصلاح ماصورة في المطبخ. طرقت زوجتي عليه الباب ففتح الباب متجهماً فقالت له: إن كان يعرف سباكًا …؟ قال بكلِ ثقة: نعم، أنا.. مع إيماءة بإصبع السبابة نحو صدره …! ثم جاء على الفور مبتسمًا وهو يحمل صندوق العدة وأصلح العطل بعد ثلاث ساعات من العمل الشاق.

هذا الرجل كانَ أحيانًا يُبادر بنفسٍ طيّبة، ويأخذ أطفالي معه إلى إحدى البُحيرات؛ لممارسة هواية صيد الأسماك. علمًا بأنَّ (جيف) ينتمي إلى الحزب القومي البريطاني المناهض لهجرة الأجانب وتعدد الأعراق، ويحذر من أسلمة بريطانيا. بعد مرور عدة سنوات توطدت علاقتي بــ (جيف) فسألته -ذات مرة- كيف توفق بين علاقتك الحميمية معي، وبين انتمائك إلى حزبٍ مُناهض للأجانب والمسلمين …! فقال: ما يعنيني هو السياسات المتبعة، وليس الأشخاص، أنا فقط أريد الحفاظ على الهوية الإنجليزية أي البريطانية. فعلى الرغم من أن (جيف) قد أقنعني حينها، ولكن في حقيقة الأمر مهما كان (جيف) صادقًا فإنَّ القوانين هي التي تمنعه وتمنع غيره من المساس بالآخرين على أساس عرقي أو ديني. وهذه القوانين أصبح الوقت متأخرًا لتعديلها؛ فضلا عن تركها؛ إذ قد مضت أجيال على تطبيقها.

جاري الآخر (نيل) كان ودودًا، طيبًا أيضًا لا يتوانى في تقديم المساعدة. كان في طريقه إلى الدوام ذات يوم عندما شاهد سيارة زوجتي متعطلة في الطريق فهرع لمساعدتها وبدل الإطار بنفسه في يوم مطير شديد الرياح والبرودة. ثم عاد إلى بيته لتغيير ملابسه المبتلة والمتسخة من سواد الإطارات. وللعلم الجار (نيل) عضو غير بارز في محفل فرعي؛ لتنظيم الماسونية العالمية…! اكتشفه صديقي لبيب السامرائي في حديثٍ دار بينهما في بيتي. لبيب مثقف من الطراز الأول استدرج (نيل) في الحديث وسحب منه الاعتراف بأنه ينتمي إلى المنظمة الماسونية في مدينة بورسموث.

وفي النهاية هناك مقولة مفادها: إن الشخصية الإنجليزية في غاية الجمود، ولكن بمجرد أن تفك برغيًا؛ تنحل جميع البراغي بسهولة.

شكشوكا و فول مع الجيران :

احياناً في يوم الاحد ادعو بعض الجيران لفطور عربي في البيت٬ شكشوكا و فول وحمص و فلالفل. بطبيعة الحال كوني صاحب المكان افسح المجال لهم في الاسهاب في الحديث ولا اتدخل إلا معقباً او طالباً اما توضيح او تأكيد. حديثهم يغلب عليه روح الدعابه و (الطقطقة) على بعض٬ يمر الحديث بجولة من الموضوعات من الدوري الانجليزي٬ السيارات٬ العقار٬ الاطباق المفضلة الى ان ينتهي بالسياسة ومعجون الاسنان وادوات الحلاقة ..! الذب والتعليق والمزاح وروح الدعابه ركيزة اساسية واحد طقوس الحياة الاجتماعية. يكاد يخلو حديثهم من الجديه في الرأي او الحماس للفكرة٬ اما التعالي والانا فهي من المحرمات٬ فمن السلوكيات الخفية لديهم هو الهوس بالتقليل من اهمية ما يملك ان كانت سيارة او بيت او حتى قميص٬ بل إن من الاتيكيت أن تصرّ على ان ما عند الاخرين افضل.

 

هل الانجليز من البشر ..!

الانجليز لا ينكرون وجود الطبقية بينهم ويعتبرونها من المسلمات لوجود القانون الذي يحفظ حقوقهم ولا يسمح بوجود التفرقة.خصوصاً ان الطبقية تبدلت واتخذت اشكالاً اكثر مرونه٬ فبدلاً ان تكون مقيدة بالنسب والوراثة٬ صارت مرتبطة بالتعليم والاقتصاد و مدى القدرة على اختراق دوائر التأثير والانغماس فيها. فمع بروز الطبقة الوسطى من اطباء و محامين و مدرسين ورجال اعمال٬ انقسم المجتمع الى ثلاث طبقات (عليا٬ وسطى٬عمال) مع ذلك تبقى الكثير من التساؤلات حول العدالة الاجتماعية خصوصاً بين طبقة (العمال) الذين يجدون انفسهم محاصرين في طبقة لا يستطيعون الخروج منها.

من الصعب الحديث عن نظرة الانجليز للطبقية من دون الاخذ في الاعتبار اللهجه و طريقة النطق و اختيار الالفاظ. كذلك شكل و موقع البيت و نوع السيارة واللبس والهوايه بما في ذلك الاكل و الشرب. مع ذلك تنتهي الطبيقية بينهم عندما يقابل احداهم الاخر خارج بريطانيا٬ الامر الذي يعكس مدى الغرابة في ثقافتهم٬ حتى المؤرخ الهولندي الساخر ( G I Renier) قد كتب عنهم بعنوان ( هل الانجليز بشر) حيث قال متندراً على ثقافتهم بأن العالم : يسكنه نوعان من الاجناس نوع وهو  الجنس البشري والاخر انجليز..! بينما الانجليز يرددون ما ذكره هذا المؤرخ البارع في السخرية بنوع من الفكاهه و التندر على انفسهم.

الانجليز كأي شعب اخر تحمل ثقافتهم مجموعه من القيم والسلوكيات المشركة و المتكررة حتى صارت فيما بعد صورة نمطية عنهم لدى باقي الشعوب. فعلى سبيل المثال : الطبقية٬ الخصوصية٬ التحفظ٬ الاحترام٬ الخبث٬ التسامح٬ الهوس بالحديث عن الطقس٬ غريبي الاطوار٬ التخريب والشغب في كرة القدم٬ والبرود العاطفي٬ احترام الطابور٬عدم الاكثراث بالاخرين٬ كتوم لا يظهر مشاعره٬ واخيراً و ليس اخراً شرب شاي العصر الذي اصبح من الماضي. مع ذلك جميع تلك الصفات الشائعه تحمل في طياتها العديد من الشفرات والتي لا يمكن التحقق منها إلا عن طريق المشاهده بالعين المجرة٬ وايضاً  لا يمكن حمل جميع ما ذكر من سمات او خصائص للعقل الجمعي لديهم واسقاطها على المستوى الفردي٬ فهناك ضوابط اجتماعيه وايتيكيت متوارثه سواء مكتوبه او غير مكتوبه يتبعها الافراد بشكل تلقائي تتحكم في تعاطيهم مع الاخر. لذا ادعي بأنني قد استطعت على فك البعض من الصور النمطية عنهم من خلال معايشتي لهم لسنوات عدديدة قضيتها في العديد من الاحياء التي يقطنها غالبية عظمى من الانجليز الاقحاح ممن يحملون في دمائهم العرق السكسوني.

 

هل لدى الانجليز هوس بالحديث عن الطقس ..؟

الطقس في انجلترا متقلب بسبب موقعها فهي رجل على المحيط الاطلسي و الاخرى في القارة الاروبية٬ فلقد امضيت سنوات عديدة قائداً لسفينة الجوف اجوب في بحارها من (السولنت) في الجنوب الى بحر الشمال والبحر الايرلندي غرباً٬ اجواء مضطربه لا تعرف الراحه ولا السكون إلا فيما ندر. بل ففي معظم الاحيان توقعات الارصاد لا تصيب بل تخيب٬ فلربما هذا ما يثير حفيظتهم٬ وإلا فما الذي يعجب الانجليز في هذا الجو المزعج٬ وهل هم حقاً يتلذذون بالحديث عن هذا الجو المزاجي..! مع ذلك تقول الاحصائيات ان ٥٦٪ منهم قد تطرقوا في حديثهم عن الطقس خلال الست ساعات الماضية بينما ٣٨٪ خلال الساعه الماضية٬ علماً ان بعض التقديرات تشير الى معدلات اعلا من ذلك. ومما يعزز ذلك درايتهم بالطقس ومتابعتهم له لحظة بلحظة. ولكن من الملفت لنظر ان حديثهم عن الاجواء لا يأتي إلا في الوهلة الاولى عند اللقاء ثم يُغلق وينتقلوا الى موضوعات اخرى. هذالامر سائد و متعارف عليه٬ حتى عندما تقابل لاول مرة وتفتح معه موضوع الاجواء تُفهم بأنها رسالة بأنك تريد التحدث اليه. فالحديث عن الاجواء عبارة عن اداه او مفتاح لكسر جدار التحفظ المتجذر في ثقافتهم. لذلك غالباً تبادل التحايا بينهم بالتعبير عن حالة الاجواء٬ على سبيل المثال ان تلتفت الى الشخص الاخر وتقول: الجو جميل اليوم او بارد٬ ممطر فيرد عليك : نعم او صحيح او اليس كذلك .. اما تبادل التحايا بالعبارات المألوفه لدينا مثل: كيف الحال او كيف الصحة فهي عبارات من الماضي واصبحت غير مألوفه لا عند الكبار ولا الشباب. اما اذا قابلت شخص ما لفترة وجيزة في مصعد او في طابور فتلتفت اليه و تحيه بكلمه واحده وهي (Allright) تعني كيفك ويرد عليك بنفس الكلمه.

اما اذا التقيت بشخص لاول مرة او كنت مدعو لدى احدهم في بيته او في مطعم و شعرت بأن اللقاء قد أزف واردت الانصراف فليس لدى الانجليز قواعد او كما يقال عندنا  (سلوم) معينه بل هي غريبه و تتسم بنوع من الفوضى ..! ففي اللحظة التي تنظر فيها الى ساعتك وتتهيأ الى النهوض والانصراف بقدرة قادر تجد أن الحديث قدد تجدد بجرعه من النقاش اما حول الازدحام او غلاء البنزين او اي شيء اخر٬٬  وقد يتكرر هذا الشيء لعدة مرات لذلك من المعتاد ان تمتد لحظة الانصراف لفترة اطول مما يجب٬ وعلى اي حال فليس من الذوق ان تُظهر الرغبه في الانصراف٬ لذا كل طرف يجب عليه ان يبدو مترددا حتى اللحظة الاخيرة من الوداع و بعد ركوب السيارة فلا بأس من فتح الزجاج والتلويح بعبارات محملة بوافر من الشكر و الامتنان. وكالعادة بعد ان تنطلق السيارة الجميع يتنفس الصعداء إيذاناً بانتهاء مراسم التوديع.

قواعد و محاذير عند الحديث عن الحديث عن الطقس :

فليس من الاتيكيت اذا التفت اليك احد و قال : ان الجو شديد البرودة هذه الليلة ان ترد لا بالعكس الجو مقبول٬ حينها سوف يُنهي الحديث معك او يبدي استغرابه منك..! فالمعتاد في هذا الموقف ان ترد بالايجاب وان تقول : هو كذلك (isn t it ) او صحيح. فالحديث عن الاجواء كما قلنا مفتاح للبدأ في الدردشة فمن الصعب ان تستمر والبدايه خلاف في الرأي. ولكن من ناحية اخرى فهناك استثناء لهذه القواعد فمن الممكن ان تقول : صحيح .. ولكن على الاقل ليس ممطر على اساس ان الجو البارد والجاف افضل من البارد و الممطر. ايضاً الاستثنا الاخر ان تقول : صحيح .. ولكني لا اشعر بالبرودة.. ولربما هناك العديد من الاستثنآت التي لم الاحضها.اليك ترتيب هرمي لحالة الطقس من الافضل الى الاسوء من وجهة نظر الانجليز :

  • مشمس و دافيء
  • مشمس و بارد
  • غائم و بارد
  • ممطر و دافيء
  • ممطر وبارد

الشيء الوحيد الغير موجود في القائمه هو سقوط الثلج الذي يندر حدوثه خصوصاً ما يتمنونه في اعياد الميلاد. الثلج شئ لطيف بشرط ان يكون معقول و لا ينهمر بكثافة. وعلى اي حال يبقى الطقس مدعاة لتندر (الطقطقه) وايضا لتململ والتأفف٬ وفي السنوات الاخيرة دخل التغيير المناخي كجزء من طقوس الحديث.

 

تأبين جنازة صاحبها حي …!

 

تعرفتُ على (لانس وايت) خلال رحلةٍ صباحيّة في القطار، ثم أصبحنا صديقا منفعة. كان يسكن في قرية أخرى، قريبة مني ويستخدم نفس القطار الذي كنت أستخدمه أحيانًا من (بيترزفيلد) إلى (لندن).

(لانس) موظف في بنك استثماري كبير، انجليزي صِرف، طويل القامة، وسيم، ملامحه أنجلو سكسونية، شعره أشقر مفروق من الوسط، قد تجاوز الأربعين بقليل وله ابتسامة جذابة، تُغري أيّ فتاة مهما كانت محتشمة.

زارني (لانس) في أحد أيام الصيف الجميلة، وجلسنا في الحديقة بعد أن تناولنا الغداء فقلت له: بأنني جئت إلى بريطانيا عام 90م  ومكثت فيها أكثر من خمس سنوات، ولكنني عندما عُدت اليها عام ٩٨م لاحظت تغيّرا واضحًا مقارنة بفترة بداية التسعينات، حيث وجدت الشباب – تحديدا – أقل تحفظًا وأسهل تواصلا من ذي قبل؛ يبادرونك بابتسامةٍ مقرونةٍ بعبارات ترحيبية، ملابسهم فضفاضة غير رصينة، كذلك صارت المحلات التجارية، والمقاهي تعجّ بأصواتِ موسيقى (البوب) الصاخبة. لم تكن تلك الأمور موجودة سابقا على ما أذكر. فقال لي: صحيح يا صالح؛ هذه فترة حرجة في تاريخنا الحديث، أصبحنا تحت تأثير دوامة انفتاح هائلة شملت جميع مناحي الحياة، وخصّت أكثر الجنس والمرأة والموسيقى، كل ذلك بتأثيرٍ من الثقافةِ التي هبّت علينا من الساحلِ الغربي للمحيط الأطلسي. هذه الثقافة صارت تُعرف اصطلاحًا بـــ (ثقافة الشباب)، أضف إلى ذلك وجود العديد من الأقليات العرقية المختلفة من آسيويين وأفارقة فقاطعته قائلا: وما دخل هذا بمسألة الانفتاح …! قال: لأننا نعيش في ورطة ثقافية منذ الثمانينيات، فهناك أشخاص هاجروا إلينا، واتخذوا من بريطانيا بلدًا لهم، وظهر ما صار يُعرف في بريطانيا (بالتعددية الثقافية ) شعار ابتكره رجال أعمال من الخارج، وسياسيون جدد من خارج مؤسسة الحكم العريقة، ساخطون على موروثنا الثقافي، واستطاعوا تحويل هذا الشعار إلى قانون مسلط على رقابنا، ولا أحد يجرؤ على المجاهرة بانتقاده سوى الخارجين عن القانون، الذين يجوبون الأزقة المظلمة في جماعات من أصحاب (التاتو) وأحذية الجلد الطويلة، والسراويل المرقعة. بينما معظم الإنجليز من أمثالي يعتبرونه مجرد ديباجة لا تعني لهم شيئا. قلت له: ولكن من المعروف يا (لانس) أنَّ الشعب في بريطانيا هو من يُصَوِّت على القوانين قبل اعتمادها قال: لا يا صالح؛ المواطنون في هذا البلد لا يصوتون على القوانين، لكن لهم الحق في انتخاب أعضاء في البرلمان، هم من يضع القوانين نيابة عنهم. ومن المفارقات العجيبة -يا صديقي- أنَّ هذا المبدأ، أو ما يعرف بــ (التعددية الثقافية) جاء في الأساس لإشاعة الحرية بين الناس، إلا أنَّ أصحاب الأرض -من أمثالي- ليست لديهم القدرة على انتقاد هذا المبدأ؛ لأن فزّاعة العنصرية ستكون له بالمرصاد، ومن ثمّ الوقوع تحت طائلة القانون الذي وضعه فئة غريبة علينا متنفذة في المجتمع. هذا هو الوجه القبيح للديمقراطية…! أرأيت كم نحن أغبياء يا صالح…! فقلتُ: عذرا.. ربما هذا رأيك الشخصي يا (لانس).  فقال: لا، صدقني معظم الإنجليز يعانون من هذا الشيء فباتوا يشاهدون ثقافتهم وتقاليدهم العريقة تتعرض للتهميش والإفساد. هل تعلم أن الطفل الإنجليزي في المدارس الابتدائية في وسط لندن صار أقلية بنسبة واحد الى أربعة…! ضع أقدامك في حذائي (أي مكاني) هل تؤيد يا صالح نظامًا يجعل السعودي ابن البلد يتحول إلى أقلية…!؟ كيف نرضى أن تصبح الهوية الإنجليزية مسألة اختيار…! لذلك فلا أنا ولا غيري مقتنع بفكرة (التعددية الثقافية) ولكنها فُرضت علينا، والسبب أنَّ الإنجليزي بطبعه مُنصاع إلى القوانين، وكأنه خُلق لكي يُلام ويُنتقد، حتى صار حالنا كوارثٍ، أُجبِر على إشراك الغرباء في ورثه، بل أشد وأنكى من هذا؛ إنهم أُعطوا النصيب الأكبر من الإرث…!

دعني أسألك يا صالح: ماذا تعني ثقافتنا لشخصٍ قدم من آسيا، أو أفريقيا، أو حتى ليهودي هاجر من إستونيا في الثمانينيات إلى لندن …؟ فلا الكنيسة الإنجليزية أو العرق الأنجلوسكسوني أو الملكة ناهيك عن مكانة (القس جورج) في عقيدتنا ولا تاريخنا الطويل يعني شيء لهؤلاء. نحن –الآن- أمام مشهد تأبين جنازة صاحبها حي…! استوقفت لانس وقلت: يا تُرى من هو القس جورج…؟ فقال: هو إغريقي من الأناضول كان جندياً في الجيش الروماني في أوائل القرن الثالث الميلادي، اعتنق المسيحية فحكم عليه بالإعدام، ومع ذلك رفض أن يتخلى عن دينه. نحن نعتقد بأنّه كان قسيسًا بطلا وفارسًا تقول الأساطير بأنّه قد قتل تنيناً لينقذ فتاة، فنحيي ذكرى ولادته في 23 أبريل من كل عام، هذه المناسبة لها مكانة في وجدان الإنجليز تضاهي مكانة يوم عيد ميلاد المسيح.  في يوم القس جورج لا يوجد احتفال، بل تجلس كل عائلة على مائدة عشاءٍ يتلون فيه الصلوات، ويشربون نخب النبيذ على روحه. صارت محاولات عديدة لجعل يوم القس جورج إجازة لكن لم يكتب لها النجاح.

لاحظت أنَّ (لانس) كان منفعلا قليلا، فحاولت احتواءَ نبرةِ الانفعال تلك بتمرير سؤال: ولكن أين مؤسسة الحكم العريقة التي تحدثت عنها يا لانس…؟ فأخذ نفسًا طويلا، ملأ صدره بالهواء ثم تناول كوب القهوة وأخذ رشفة، وأسند ظهره على الكرسي، ووضع رجلا فوق رجل وقال: اسمع يا صالح، المقصود بمؤسسة الحكم العريقة أو الطبقة (الارستقراطية) هم قرابة مئتيْ عائلة يمتلكون معظمَ الأراضي في بريطانيا، هم من أصحاب الأملاك والنفوذ، في الغالب كانوا ينأون بأنفسهم عن طبقة الأغنياء والتجار، بل إنَّ الحديثَ عن المال يُعتبر بالنسبة لهم شيء مبتذل…! ثم سكت لانس برهة ليأخذ نفسًا، لكنني استدركته: عفوا يا لانس: لم أفهم كيف لملاك أراضٍ التحكم في سياسة دولة عظمى مثل بريطانيا…؟ فقال: صحيح معك حق، وسؤالك منطقي، ولا غبار عليه، فالأرض تاريخيًا وإلى قبل الحرب العالمية الأولى هي التي كانت تمنح المكانة الاجتماعية والسلطة عن طريق العوائد المالية من الإيجارات، هؤلاء كانوا إلى حدٍ ما أشبه بسلالةٍ من النُبلاء، يتلقّون تعليمهم في مدارس مرموقة مثل: إيتون وأكسفورد وكامبريدج، ولديهم نفوذ، وملتزمون بقيم وأخلاق. كانوا الى حدٍ كبير عصيين على الفساد. يقدمون مصلحة البلد على مصالحهم الشخصية. ثم وضعت يدي خلف رأسي مشبكا أصابعي ومحملقًا في الفضاء وقلت: إلى الآن لم أفهم طبيعة تلك العلاقة…! قال: حسنا يا صالح، هذا العرق هو من انتزع الصلاحيات من الأسرة الحاكمة، وصنع بريطانيا العظمى من خلال سن القوانين، التي تكفل الحريات، والمساواة، وإنشاء المؤسسات في مختلف نواحي الحياة.   فقلتُ: هل أفهم من كلامك أنك تؤيد أن تُحكم بريطانيا من خلال بضعِ مئات من العوائل الأغنياء، بدلاً من أن يأتي حاكم من عامة الشعب كما هو حاصل الآن ..؟ قال: لا يا صالح، ربما لم أُفلح في شرح الفكرة بعد، ما أردت قوله هو أن الطبقة العريقة ليسوا من الأغنياء، هم فقط أصحاب أملاك، وملتزمون بقيمٍ، ولديهم خبرة ونفوذ ، أنا لست ضد أن يأتي رئيس وزراء ينتمي إلى عائلةٍ من الطبقة الكادحة من أمثال (توني بلير) الذي كان ابنًا بالتبني، أو (جون ميجر) الذي كان والده عامل بناء. بالعكس أنا مع هذا التوجه فمن حق أي مواطن بريطاني مهما كانت خلفيته أن يصل إلى أعلى المناصب. قلتُ: أرجوك توقف هنا، لقد شممتُ رائحة تناقض في كلامك يا لانس..! أنتَ مع مؤسسة الحكم العريقة (الأرستقراطية) من ناحية، وفي الوقت نفسه، تؤيد السياسيين الجدد (الطبقة الكادحة)، لقد أدخلتني في منطقة ضبابية…!  حسنًا لا أريد إفساد هذا اليوم الجميل، والمشمس بحديثٍ جاد وطويل كهذا. دعنا نُطلِقُ ساقينا –قليلا- بين هذه الحقول الغناء. نهضنا على الفور فسلكنا جادةً كثيفة الأشجار مشبعة بالرطوبة، محاولين تجنب مناقع من آثار أمطار البارحة، فخيّم علينا السكون فيما عدا بعض النداءات من طائر الرفراف وقرع حوافر الخيل في الأسفلت. ثم استوقفت لانس، وقد فاحت رائحة الصوف من معطفه من آثار الرطوبة، فاقترحت عليه أن نسير باتجاه مزرعة السيد (هيث)؛ حيث يوجد بها إسطبل للخيول كنت قد استأجرت منه مكانًا لفرس عربية بدلت اسمها من (أنوتا) الى (هلا) بعد أن اشتريتها للأولاد لإشغالهم عن بعض الأمور، التي عادة ما يَخشى منها الأب على أبنائه. قضينا بعضَ الوقت مع الفرس، وقدمنا لها وجبة المساء، عبارة عن كمية كبيرة من الرودس الجاف مع قليل من المكعبات المركزة، مضافًا إليها شعير ونخالة، ثم داعبناها قليلا بعد أن مررنا الفرشاةَ، على جسدها ومشّطنا عرفها وذيلها الطويلين مع قليل من الماء والصابون، فصارت جاهزة للمبيت. .في تلك الأثناء فاجأنا صوتُ السيد (هيث) الذي كان واقفًا خلفنا لبعض الوقت قائلا: “لقد قمتما بعمل رائع، لا بد أن هذه الفرس الجميلة سوف تشكركما”، التفتُّ إليه وشكرته، وعرّفته بنفسي، وقدمت له صديقي (لانس)، اعتذرتُ منه لعدم مصافحته؛ فأيدينا قد عبثت في بالات التبن وأكياس العلف ورد قائلا : “لا يهمكما، تعالا معي لتغسلا أيدكما، وتشربا معي كوبًا من الشاي” وافقنا على الفور، وسرنا معه باتّجاه طريقٍ ضيّق مرصوفٍ بحبيبات من أحجار البحص الصغيرة بين أشجار من (الأوك) تعانق بعضها، ثم انكشف لنا فجأة منزل عبارة عن قصرٍ صغير منزوي بين الأشجار، وكأنَّه لا يريد الإعلان عن وجوده. المنزل محاط بعدة حقول من الذرة والقمح، وعلى بُعْد عدة خطوات من المدخل لفحتنا رائحة التربة المنبعثة من خطوط المحراث في الحقل القريب من المنزل. فتح السيد (هيث) درفة الباب وتركها مشرعة، وبإشارة ترحيبية بيده دعانا للدخول إلى غرفة جلوس متوسطة الحجم، جدرانها مطليّة باللون الأصفر المطفي وسقفها مرتفع، تزينها ثُريَا من نوع (مورانو)، ونوافذ شاهقة لها إطار أبيض عريض. وأمام المدفأة كان هناك كلب من نوع (دالميشن) متوسد ذراعيه لم يعبه بنا. السيد (هيث) قد تجاوز الثمانين يرتدي قميصًا ناصع البياض، وبنطلونًا لونُه جيشي وجاكيتًا بليزر أزرق بأزرار مذهّبه، ويضع منديلا أحمر ظهر طرفه في جيب الصدر. شعره كثيف بالنسبة لرجلٍ مُسِنٍّ قد غلب عليه البياض، مخضب بالجِلّ ومُسبط للوراء بعناية ليخفي بقعة صلع صغيرة خَلفَ الجمجمة. له حواجب سوداء كثيفة وبارزة فوق عينيه، طويل القامة، حتى إن لانس-وهو الطويل- لم يتجاوز كتفيه.! ومع أنه بصحة جيدة إلا أنَّه إذا تكلم تشعر بأنَّ الكلام يخرج من تحت أنفاسه، فتضيع بعض الكلمات في وسط الجملة. جلسنا انا ولانس متقابلين عند المدفأة، بينما هو غطس في أريكة بيننا واضعًا رجلا فوق أخرى. ثم أتى خادمه مُسرعًا يحمل سلة فيها حطب، وضعها جانبا بعد أن أخذ منها عدة أعواد مبرومة دسّها بعناية في المدفأة، أما السيد (هيث) فقد سرح –برهة- يراقب الخادم ضاغطا بإصبع الإبهام على شفته السفلى مقطبًا حاجبيه فالتفت إليه لانس قائلا: يا سيد هيث؛ صالح من السعودية يريد أن يعرف عنكم أكثر يا ملاك الأراضي..؟ فصوب وجهه نحوي وقال: من الأفضل أن لا تعرف عنّا أي شيء؛ لأننا نمر بأسوأ حقبة في تاريخنا، فكلما احتاجت حكومة هؤلاء السياسيين الجدد مَالا، اتجهت إلى أراضينا، ورفعت الضريبةَ عليها، يُشعلون الحروب ويتسببون في الأزمات ونحن من يدفع الثمن. الكثير من مُلاك الأراضي باعوا أراضيهم بسبب عدم قدرتهم على دفع الضريبة، أما الباقون فلا يزالون يعانون من دفع الضرائب والالتزامات تجاه من يعملون في الأرض. فسألته: هل لديك عُمّال كثر…؟ فزم شفتيه مفتعلا ابتسامة، وقال: هنا 700 عائلة تسكن في القرى المجاورة، تعتمد على الريع الذي يأتيها من الأراضي التي أملكها وأدفع للعاملين بدل التقاعد. ومع ذلك معظم الشعب ينظرون لنا بأننا طبقة أرستوقراطية مرفهة، أو كما يقولون قطط سمان…! أما الحكومات فدائمًا تريد منا المشاركة، بدفع المزيد من المال، وفي المقابل يفرضون علينا المزيد من الرسوم والضرائب. نظر إليَّ لانس وقال: السيد هيث اختصر القصة الطويلة في دقائق. ثم ودعنا السيد هيث بعد أن شكرناه على الشاي.

هدية الإنجليز للعالم

 الشيء الوحيد الذي وجدته مشتركا بيني وبين الإنجليز كضابط بحري، هو أن الشعب الإنجليزي من أكثر شعوب العالم تعلقًا بالبحر. فإن صحَّ هذا الرأي، فَهُم مجتمع بحري بامتياز. معظمهم لديهم دراية بأساليب الإبحار، وأنواع السفن المختلفة. ساعدني هذا الأمر في بناءِ علاقات مع الكثيرين. كما أنَّ هواية القوارب الشراعية متجذرة في نفوسهم؛ إذ في بعض المناطق تنافس الكريكيت.

على النقيض من الشعب السعودي الذي يتصور بأنَّ العمل في البحرية له علاقة بصيد السمك …! بل إنَّ أحد الإنجليز استغرب عندما قلتُ له بأن الشباب السعودي يفضلون الطيران على البحرية …! على اعتبار أنَّ القوات البحرية في بريطانيا تحتلَّ المرتبة الأولى بين أفرع القوات المسلحة لديهم. فلا غرابة أن تحتل البحرية البريطانية مكانة مرموقة بين الناس؛ لارتباطها الوثيق بمصالحهم المباشرة خصوصًا إبان عهد الإمبراطورية البريطانية، عندما كانت مهمتها الرئيسة هي حماية قوافلَ من السفن التجارية محملة بسلعٍ مصنعة في بريطانيا قد تم الاستيلاء على موادها الأولية من مستعمرات لتجد طريقها إلى الأسواق حول العالم. أي أنَّ فكرة الإمبراطورية في أساسها لم تكن تهدف إلى احتلال الأراضي أو إذلال الشعوب بل هي عبارة عن مشاريع تجارية محضة. هم تجار أبناء (جون بول)؛ لذلك عندما فشلت تلك المستعمرات في تحقيق الأرباح المنشودة فشلت فكرة الإمبراطورية وانهارت برمتها.

بالطبع كان هنالك مشاريع ثقافية، وتبشيرية مُصاحبة كانت تُمَهِّد الطريق؛ لتمدد الإمبراطورية، لكن جهابذة الإمبراطورية كانت أعينهم منصبة على المال، ولا غير المال. انتهى كل شيء ولم تعد بريطانيا عظمى، بل مجرد دولة -قوية نسبيا- في شمال أوروبا. وعلى الرغم من كل خطاياهم التي لا تُحصى في حق الشعوب يفتخر الإنجليز بأنهم قدموا للعالم هدية ثمينة وهي لغتهم الإنجليزية؛ لكي يتحدث بها شعوب العالم عوضًا عن لغتهم الأم…! وأيضًا توقيتًا عالميًا اسمه (GMT) مع ذلك الإنجليز أنفسهم يعترفون بأنَّ اللغة الإنجليزية لم تعد ملكًا لأحد بل للعالم أجمع. بإمكان أي شخص في العالم إضافة كلمة تحمل المعنى الذي يريده؛ بشرط أن يتم تداولها، بمعدل يتوافق مع المعايير التي وضعها مركز قاموس أكسفورد التابع لجامعة أكسفورد. علمًا بأن هذا المركز يُخضِع أكثر من ثلاث الاف كلمة سنويًا؛ للاختبار بهدف إضافتها للقاموس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *