جرس … جرس …
في يوم اعتيادي كان زيد يجلس في مكتبه بشارع الضباب،يراجع التقارير المالية ويقرأ الرسائل والفاكسات القادمة من اقسام الشركة والشركات التابعة لها.امسك بالولاعه المعدنية من نوع (زيبوز) فاشعل سيجاره من نوع كوهيبا روبستو يستمع الى اذاعة لندن لبرنامج حسن الكرمي (قول على قول) ثم قطع صوت (بيق بين) حين معلنة موعد نشرة اخبار الساعة الثامنة صباحا مستهلةً الاخبار عن موجات من الحشود البشرية للقوات الايراني تزحف للاستيلاء على الفاو وتفصف البصرة بمدافع الهاوزر بينما العراق يقاوم ويتقهقر الى الوراء. زيد كأي متعلم ومثقف عربي يعرف تماماً بان اذاعة لندت تبث السم في العسل بمهنية بدلاً من الاخبار المملة للاذاعات المحلية التي دأبت على انكار المسلمات ونفي المفضوح وتصوير الاحداث بما يتمنون ان تأول اليه. جاء القهوجي النوبي يحمل فنجان قههوة وملف فيه رسائل جاءت على صندوق بريدة الخاص وضعها الطاولة وانضرف بهدوء. اغلق زيد الراديو وبدأ في تصفح الرسائل والتي كان من بي رسالة من مدرسة (أيتين) في بريطاني مفادها بأن منصور لا يستطيع اكمال الدراسة ولا فائدة من وجودة في المدرسة وقد ابلغنا السيد جبمس نايتس بأن يقوم بعمل الترتيبات لعودتة الى الرياض. اتصل زيد بجيمس الذي اكد له ذلك ولكنه اضاف قائلا: اسمع يا زيد انا لا احب ان اصدم اصدقائي ولكن الحقيقة يجب ان تقال مشكلة منصور ليست مجرد اخفاق في الدراسة فحسب بل اكبر من ذلك، بهت زيد قائلاً ما هي المشكلة إذن ..! فابلغه جيمس بالحقيقة المرة … بأن سبب اخفاق منصور هو تعاطي الكيف ..!هل انت منأكد من هذا الكلام ..؟ نعم يا زيد لا يمكن ان اقول كلام خطير وانا لست متأكداً منه، انا على تواصل مع المدرسة بشكل مستمر ومع مدير المدرسة شخصياً وهو صديق لي وقد ذكر لي بأن هناك سلوكيات تظهر على المتعاطي منها مثلاً : الانعزال والخوف والاغراق في النوم،شحوب وضيق في حدقة العين والنفور من الاضواء،كذلك جفاف في الشفايف و الانف . ناهيك بأنه ضُبط مرات عديدة وهو يتعاطى هذا الشيء ووجدوا سجائر ملغمة في ادراجه … فانهى زيد المكالمة على عجل فلا يريد ان يسمع المزيد .
أحس زيد بالتعاسه والكدر فاتصل بأحد اصدقاء منصور شاب رائع خلوق ومستقيم اسمه فواز وسأله إن كان قد اتصل بمنصور مؤخراً فاجاب يالنفي بطريقة مشوبة بالحذر وانه لم يتواضل مع منصور قبل سفره بسنة. مع ذلك شعر ان فواز متردد وكأنه يعلم شيئاً ما ويحاول اخفاءة من باب ان لا يقع في النميمة. فلاجظ ان معظم اصدقاء منصور يريدون الابتعاد والتنصل من علاقتهم به.
اتصل زيد بجيمس فسأله ما هو الحل مع منصور : لا ادري لو كان لدي جواب ما بخلت عليك… طيب مارأيك لو ارسلناه كورس لغة انجليزية لمدة ستة اشهر في الى كيمبريج على الاقل يتعلم انجليزي ..؟ لا ادري يا زيد انت تسأل بل تخمن وكأننا جالسين حول طاولة روليت ..! ولكن على العموم تستطيع ان تجربا حظكما معاً…
بالفعل انتقل منصور من وينزور الى مهد لغة انجليزية في كيبمريج وسكن مع عائلة. استمر منصور في مقارعة دروب الشيطان في ميادين مختلفة،متسكعاً في تلك الطرق الضيقة والمظلمة. يتعاطى شتى انواع الهبايب وقد طاب له نوع جديد من المروانه اسمه (ثيكسرونيك) له تأثير قوي اذا سلطن عليه النور تنعكس منه نجوم تلمع.ضل منصور يهيم على وجهه لا ترى عيناه سوى الشهوات وشد النفس والترفيع ..!يفضي معظم وقته خارج بيت العائلة ذلك المنزل الذي اختلطت فيه روائح النوم والاثاب بالموكيت.افراد العائلة عبارة زوج وزوجتة وكلب (بول دوق) يتسكع في ارجاء المنزل ويحملق بعدوانية كلما شاهد منصور. تم تسريح الزوج عن العمل بسبب الظروف الاقتصادية آنذاك،فانخفض دخلهما وقبلا السكوت على تصرفات منصور المشينة خشية فقدان الدخل الاضافي. عاد منصور الى البيت متأخراً في ليلة باردة ولم يكن يلبس سوى قميص خفيف فلفحه الهواء البارد فشعر بألم مخيف لم يستطع وصفه بأي شكل من الاشكال.دخل على إثر ذلك المستشفى فكشف عليه الطبيب وقرر اخذ خزعه من النخاع،غرس الطبيب ابرة طويله في ظهره فصرخ من شدة الالم حتى كاد ان ينفطع نفسه،ثم غادر المستشفى وقفل راجعاً الى بيت العائلة بعد ان صرف له الطبيب وصفه فيها مسكنات للألم الى حين ظهزر نتائج الخزعه. طلب من العائلة الاتصال من هاتف المنزل بأهله فتعاطفوا بسبب حالته الصحية وسمحوا له بمكالمه لبضع دقائق. تلقت حصة المكالمة من ولدها واصرت على زيد ان يذهب بنفسه وأن لا يعود إلا ومنصور معه.
عاد منصور الى الرياض وعن طريق شفاعة احد الامراء تم تحويله الى مستشفى الملك فيصل التخصصي،وقد تم تشخيص مرضه على انه نومونيا ليست حادة وبامكانه تلقي العلاج في المنزل. بعد مضي عدة اسابيع استجاب جسم منصور للادويه وشفي من المرض.
على الفور رتب له والده وظيفة كاشير في احدى البنوك. فدخل عليه البنك ذات يوم صديق دراسه اسمه ياسر، كان يريد تحويل رواتب الخادمه، ياسر شاب دائم الابتسامه حنطي يميل الى السمار، ذو ملامح خشنه، مكتنز البنيه له انف ووجه كبير، وله عينان صغيرتان فيهما نظرات انتباه لا ذكاء، درج اصدقائه على تسميته … طرماح …هو ابن عائله متواضعه تسكن في حي السويدي، والده رجل عركته الحياة، بدأ حياته خوي لاحد الامراء ثم تحول الى مقاول اسوار وملاحق. نهض منصور من الكرسي وادخل يده في فتحة حاجز الزجاج وسلم عليه … فرد عليه ياسر قائلا : كيفك منصور .. ماشي الحال .. انت شغال هنا من زمان .. لا والله مالي إلا اسبوعين …بس اسمع يا ياسر ترى حوالات الخادمات عن طريق بنك الراجحي ارخص واسرع .. انتظرني انا طالع لك برا اعلمك . . اوكي .. خرج منصور ليتحدث مع ياسر في زاويه وجلسا في فيّ مبنى البنك، اسهبا في الحديث معا، بغية تجديد علاقتهما القديمه، كان ياسر كمن يتحدث من ذاكرته، يفرك انفه كلما اراد ان يقرر او يعقب اثناء الحديث،فلاحظ منصور الاصفرار في اظفري الابهام والسبابه وهناك اثر ثقوب سوداء عند ازرار ثوبه … فعرف ان ياسر من اصحاب الهبايب .. ! فتجرأ وبادره بالسؤال وهو على وشك الانصراف قائلا : اقولك .. لحظة .. لحظة يا ياسر . . انا لتو رجعت من بريطانيا وبصراحه خرمان ودي اصمخ لي زقاره ما القى عندك اسعاف .. ؟ الان لا بس عندي مصدر لكنه اشوي بعيد ولا عندي سياره … بعيد يعني فين ..؟ في الدخل المحدود،ما فيه شيء بعيد المهتوي يقطع المستوي،متى ودك نروح ..؟ بكيفك يا منصور، انا ما عندي مشكله شوف الوقت الي يناسبك وانا حاضر .. شرايك نمشي الان يا ياسر .. ؟ الان ..! بس تقدر تترك الدوام .. ؟ ما عليك ما احد يقدر يقول شيء، ابوي يعرف العضو المنتدب وهو الي وظفني … زين عندك سياره يا منصور .. ايه عندي … فوق عليه … انطلقا في سيارة منصور باتجاه الدخل المحدود … على فكرة يا ياسر منهو مصدرك ..؟ ويش بيكون يا منصور ..! في الرياض اما افغاني من عمال الدخل المحدود، او يماني راعي دكان في سوق المرقب، او سواق تكسي باكستاني عند مستشفى الشميسي، بس انا احب اروح الدخل المحدود عند الافغان علشان المكان صاد اشوي. توقفت السياره بين بيوت مرصوصه تحت الانشاء، ثم نزل ياسر يسأل العمال عن شخص، فاختفى بين العماله والبيوت، ثم عاد وركب السياره وقال لمنصور يالله مشينا حرك،اخرج ياسر من جيبه قطعه في حجم نصف الكف لونها كُميت تمري، مغلفه في بلاستيك شفاف، قال منصور : كفو يا طرماح .. كم عطيته ؟ ٢٢٠٠ ريال رواتب الخادمه الضعيفه، لا يهمك انا ادبر لك المبلغ، بس هالحين يبي لنا ورق بفره … موجود … من وين تشتريه ..؟ من سوبر ماركيت السيفوي … غريبه يبيعونه علناً .. ! ما في شي غريب في هالديره يا منصور، هم يقولون انهم يبيعونه للناس الي يدخنون زقاير اللف،بينما اكثر من يشتريه رواعي الهبايب مثلي والحبل مثني… أخذ ياسر قطعة منه في حجم الاظفر، فتها وخلطها مع التبغ ثم لفها في ورق البفره، اشعلها واخذ موشين ثم اعطى منصور الذي فعل نفس الشي، فدارت الزقاره بينهما فارتخت الاعصاب وحلوّت السواليف … في لحظة تجلي في شارع البطحاء التفت ياسر الى منصور وهو يهز رأسه ويضحك ويكحك … ضرب الهبايب يخلي العقل سايب … فجأه تجاوزهما جيب الدورية فسكت ياسر وعينيه ترف بوجل، بينما انتفض منصور في المقود وهو يرتعد ويحملق في الطريق، ثم عاودا الحديث تدريجيا بعد ان اختفى جيب الدورية تماما ثم اخذ نفس عميق وسكت يلتقط انفاسه وقال : يلعن ام الدورية ما بغى يطلع إلا هالحين،لف بالسيارة ودخل في احد الحواري بعيداً عن الضوضاء وأعين المارة … طيب يا ياسر .. ظنك من اين تجي كل هالهبايب .. ؟ من عدة دول، من افغانستان ولبنان وايران واسرائيل والمغرب، الخير واجد يا ابو رفق .. طيب واذا شحت الهبايب وما لقيت لا عند الافغان ولا اليمانيه … ويش تسوي ؟ بيني وبينك اذا انقطعت مرة، اجيب من عند واحد يقول انه سوري اسمه فؤاد ابو اظفر يسكن في شارع العود حول الحلة، انا اشك انه سوري… اجل وش يطلع ذا الفؤاد .. ! يا خي ما ادري … لهجته وملامحه غريبه، عيونه خضر وشعره بني مجعد وخشمه معكوف تقل محش … في احد المرات كان فاتح القميص وكان فيه هواء قوي وكأني لمحت تاتو شكل شمعدان ..! انا ما اعرف إلا اسمه الاول بس اسميه (ابو اظفر) له اظفر طويل في اصبع السبابه، الظاهر يستخدمه لشم الكوك .. اجل تكفى يا ياسر عرفني عليه …ما عندي اتصال مباشر معه، عرفته عن طريق رفيقنا ماجد الذي كان يدرس معنا في مدارس الرياض النموذجيه .. عسى ذاك الحقنه .. إيه تتذكره … ؟ ايه أذكره اثره ما هوب سهل … اي سهل يا منصور…! ماجد طلع اخطر من الخطير، ولا يسوي شي بلاش كل شي بحقه،بس ماهوب نظيف دايم يخنبق اذا باعك شيء يا تلقاه مغشوش وإلا ناقص وزن يعني لا بد يحط لك في الكبدة عظم …اجل كيف تقابل فؤاد يا ياسر … ؟ عن طريق ماجد هو يتواعد معه على طريق الدمام، يلبق السياره جنب شبك الطريق السريع ثم يجي فؤاد بسياره جيب من ورى الشبك، ويسلمنا البضاعه ويستلم الفلوس… شعر ياسر بالامان والروقان فاشعل زقاره ثانيه، واستمر في الحديث بصوت مستريح النبرات … اما منصور فكان يقود السياره بتأني وحذر شديد، فمنذ الصغر وهو خواف متردد ويخاف من العين والحسد وكأنهما امر محقق. توقفا عند بوفيه في شارع السويلم ، طلب ياسر له ولمنصور نيس كافيه سكر زياده مع الحليب وقال : روق يا منصور ترى النس كافيه له طعم خطير مع الزقاره … استوت وزانت لهما الرفعه، فصار كل واحد يذب ويعلق على الثاني في جو ملعلع فيه مرح وانبساط، فعلى الرغم من ان ياسر خبير في امور الهبايب، ويتمتع ببرود اعصاب وقلب ماكر، إلا أن منصور بدى مبادرا ومهيمنا على الحديث، تسعفه خفة الدم وموهبة حس الدعابه والاهم توفر المال اللازم ،فانصاع اليه ياسر بشكل تلقائياً، وبذلك وضع منصور قواعد التعامل التي سوف تنشأ بينهما فيما بعد…
وبالفعل صار ياسر يريد الاقتراب منه اكثر ويعرض عليه المزيد من الخدمات فقال ذات يوم لمنصور : اذا جاء على بالك تقضم حبوب تجدها عند سائقين التريلات الواقفين عند محطات البنزين، اقترب منهم وقل للسواق … تكفى يا راعي التريله ابي اعزاز .. يفهما على طول، اذا عنده بيقول لك ايش تبي … قل له: حبه بيضاء وإلا كيبتكون او رهيب نويل او راعي الجريات … اقول فكنا من هالطلاسم يا طرماح .. الآن تقول عنها طلاسم، لكن مستقبلا سوف تعرفها عندما تنتشر على ألسنة الشباب، ترى اهل الكيف مقبلين على البرشام بقوة هذه الايام، عندها سوف تصبح الهبايب دقة قديمه. يا طرماح خلنا في الهبايب انا ماني راعي حبوب ولا اعرف حتى اساميها . طيب يا منصور اذا ما تبي البرشام ولا انتب راعي تقضيم، وصار وقتها الهبايب متوفرة، فيه طريقه سهله للحصول عليها، تروح شارع بن فريان الي ورى سوق الزل، تتمشى على هونك … اذا سمعت احد الماره ينادي بصوت منخفض ويقول … جَرَس .. جَرَس .. اعرف انه بياع هبايب .. رد عليه وقول … جَرَس … جَرَس …توطدت علاقة منصور ليس مع طرماح فقط بل توسعت وتوزعت اتصالاتة مع مجتمع الكيف شيئاً فشيئاً حتى صار منصور لا يبرح شم خطوط الكوك وضرب اوبر الهروين من حين الى حين إلى ان اصبح احد المروجين…