غبار الفيله …
طال انتظار زيد فقرر ان لا ينتظر عمه واخذ بنفسه الى القصر فشاهد الخويا وبعض العسكر بطريقة اعتيادية وكأن شيئاً لم يكن يحدث. درعم من بين الحشود الذين حاولوا ايقافه لكنه نهرهم بصوت عالي قائلا طويل العمر طالبني قال : احد الضباط من انت قال بكل ثقة : انا زيد الثريا … اهاه الثريا … الثريا اهل الطف … الله الله … والنعم بس انتظر خلني اشوف اذا عند طويل العمر احد … فذهب الضابط الى باب المكتب محاولا ان يسترق السمع لتأكد اذا كان لدى الملك احد ثم اشر لزيد بيده فدخل على الملك. كان يقلب الاوراق وبجانبه يقف ضابط برتبة عالية. رفع رأسه بهدوء ونظر الى زيد وهز رأسه قليلاً ثم قال : انت قد جيتني من قبل ..؟ ايه اعرف سالفتك… طيب فيه احد مضايقك هالحين ..؟ لا طال عمرك بس انا معي الثانوي وناوي اتزوج قريب وابي اسافر لدراسة … تبي تدرس وإلا تهاجر ..! لا ابي ادرس قانون في فرنسا وصحيح طال عمرك قد قلت لك اني ابي اترك البلد ذلك الحين كنت مضايق والحين الحمد الله الامور زانت … عجيب وش عرفك بدراسة بالقانون وفي فرنسا..؟ طال عمرك ان رحت الزبير اشتغل في دكان واحد من الجماعه هناك ودرست المتوسطة وسمعت الطلاب يتكلمون عن دراسة القانون وصار عندي رغبة… طيب يا ولدي والتفت على الضابط وقال : اكتب اسمه فاعطاني الضابط ورقة وكتبت اسمي الرباعي ثم قال:انتظر برى ويبي يجيك واحد يشوف موضوعك.جاء رجل طويل بهندام انيق ونادى بصوت عالي على الخويا: خلوا زيد الثريا يجيني المكتب فنادى احجهم وين زيد الثريا فاجبت واخذني لمكتب ذلك الرجل الانيق واذن لي بالجلوس وأخذ معلومات اكثر عني وطلب مني التابعية وشهادة الثانوي وكانت لحسن الحظ بحوزتي ثم اخرج كيس فيه مبلغ واعطاني خطاب الى السفارة السعودية في باريس فقال: هذا مبلغ يكفيك ستة شهور وهذا خطاب اعطيه لسفارة واذا احتجت اي شيء بعدين ما عليك إلا الاتصال بالسفارة وهم بدورهم بيكلمونا وهالحين توكل على والله يوفقك…غسلت هذه الكلمات قلبه بماء الثلج والبرد ثم قبل رأسه بحرارة واطلق سيقانه لريح يسبح في الهواء وكأنه في حلم…
تقدم زيد لخطبة بنت عمه حصة المطلقة والتي كانت نفسه فيها منذ الصغر فوافق والدها شفهياً.كانت حصة تعيش مع امها التي تطلقت من والدها وتزوجت تاجر من اهل الطف لكن يعيش في مكة،بينما والد حصة لا يزال يعيش في الطف.اراد زيد عقد القران في مكة. إلا أن والدها في كل مرة يتم فيها تحديد موعد للملكة يتخلف عن الحضور الى مكة. مكث في مكة بضعة ايام لعل يأتيه خبر من عند عمه .وفي احد الايام ذهب الى سوق المدعى لتمضية وقت فراغه يسير بين الدكاكين مشرد البال ولا يلوي على شيء صدفة مر على دكان واحد من الجماعه اسمه الشيخ مقبل العلا تاجر وراعي دين ومعروف في مكة سلم عليه ورحب به الشيخ مقبل ترحيب حار واجلسه على كرسي امامه وبعد ان فرغا من السلام والتحايا دخلا في حديث عن اخبار الجماعه هناك في الطف ثم سكت زيد وسرح قليلا فالتفت اليه الشيخ بندر قائلاً : شفيك مسلهم ..؟ لا ابد بس افكر في موضوع ودي اخذ رأيك في عم ؟ سم يا ولدي عساه خير … ان شاء الله إنه خير لو تم … انا خطبت حصة بنت عمي علي الثريا ووافق وتخبر هو عايش في الطف ونبي نعقد القران في ذا في مكة علشان هي عايشة مع امها في مكة وكل مرة نحدد موعد الملكة يتعذر وما يحضر وانا تعبت معه وما ادري واشلون اتصرف ..؟ اهاهه .. غريب وليه سوي كذا عمك علي ؟ ما ادري انا خطبتها ووافق ورحب وقال مانا بلاقينا لبنتا ازين منك يا زيد وحلاة الثوب رقعته منه وفيه … اجل وش ظنك السبب ؟ والله اني فكرت وقلبتها والي اعتقد ان عمي عجّاز والمسافة بعيدة ولاهي مع حرمته الجديدة … ههههه اجل الكل منكم على همه سرى … هذا الي حاصل يا عم …عليك بالصبر وترى لصبر حلاوة ما تقل عن حلاوة الفرح بالشيء … انا صابر يا عم ومحتسب … اجل اسمع وانا ابوك رح لم الشيخ عبدالله ابن دغيش قاضي المحكمة الكبرى في مكة … لا فكني يا عم انا ما ابي اشكي عمي … ومن الي قالك اني ابيك تشكيه ..! رح لمه واشرح له الموضوع وقل له انا ما ابي اشكي عمي انا ابي مشورتك يا شيخ … تسذااا فهمت عليك … مادام فهمت علي ما عليك خلاف … بس انا ما اعرفه ويمكن ما يدخلوني عليه … ما عليك في واحد كاتب ضبط عنده اسم الحميدي من الجماعه رح وقل له انا مرسلني عليك الشيخ مقبل وابي اقابل الشيخ عبدالعزيز ولا يهمك تراه يعرفني زين وقد خدمته عدة مرات … سرح زيد برهه يفرك في يديه كمن يتأهب لعمل عمل شيء طاريء ثم فز وقال : انا استرخص يا عم بندر وقبل راسه وشكره على المشورة … الله يوفقك يا ولدي وعاد علمني وشلي صار معك … ابشر من دون ما تقول بس اطلع من عنده واجيك .دخل زيد على القاضي ابن دغيش رجل نحيل الجسم وجهه وديع بارز عظام الخدين في عينيه فيها انكسار كأنه يتقي الضوء وله لحيه بيضاء ناعمه منسدله على صابريه كان منكباً يقرأ في اوراق وكان الحميدي جالساً على طرف الطاوله يقرا عليه نص حكم. سلم عليهما فردا عليه السلام ولم يرفع الشيخ رأسه وقال : يا شيح انا عندي موضوع … قل وش موضوعك …انا ابي املّك على بنت عمي وابوها عايش في الطف وكل مرة يواعدني علشان يجي للملكة في مكة ويخلف الوعد … رفع الشيخ رأسه بهدوء وقال : ابوها موافق ؟ الله الله يا شيخ … وليه ما يبي يجي ؟ ما ادري يا يا شيخ بس كل مرة يجيب عذر تقل كأنه ساكن في قندهار ما هوب الطف …ابتسم الشيخ ثم نكس رأسه يناظر في الارض وقال: لا تستعجل يا ولدي يمكن عمك عنده عذر ما نعرفه بس انت قدمت معروض ..؟ لا يا شيخ انا جاي طمعاً في مشورتك وابا اكمل ديني بعدين هذا عمي وشلون اشكيه ..؟ انتصب الشيخ واسند ظهره على الكرسي على الكرسي وبدى اكثر اهتماما ثم قال : اسمع اذا جاء من بكرة جب تلفونه واعطه لكاتب الضبط الحميدي والتدبير عند العزيز الحكيم … جزاك الله خير يا شيخ …
اتصل القاضي على والد حصة وبعد ان تأكد من موافقته ابلغه بأن لديه مهلة اسبوعين للحضور الى مكة لعقد القران وفي حالة عدم حضورك فانا قاضي المحكمة الكبرى في مكة عبدالله بن دغيش سوف اقوم بعقد قرانها نيابة عنك وهذا ما ينص شرع الله. بالفعل لم يحضر والد حصة وعقد القران القاضي. سافر زيد مع حصة الى باريس على الحساب الشخصي للملك فاجتاز اللغة الفرنسية بتفوق وحصل على قبول من جامعة السربون العريقة وقضى فيها خمس سنوات وتخرج بامتياز ثم حصل على منحة اخرى لدراسة بجامعة كيمبردج في بريطانيا لاتمام درجة الماجستر.
عندما عاد زيد الى الرياض صار من علية القوم او بالاحرى من النخبة فهو من عائلة مرموقة ويحمل شهادات عليا من ارقى الجامعات في العالم، فحصل على وظيفة مدير إدارة في وزارة المواصلات فتوسعت من خلالها معارفه في المجتمع وخبراته بالعمل البيروقراطي.لم يطول المقام بزيد في الحكومة فبذكائة وفطنتة اسسا هو وعمه الذي كان موظفاً في ارامكو ثم تحول الى مقاول بتشجيع ودعم من رؤسائة الامريكان، لسد النقص آنذاك في المقاولين المحليين،كما ان الحكومة كانت تضغط على ارامكو لدعم المقاولين السعوديين بغرض انشاء صناعة مقاولات محلية.ثم تطورت فيما بعد اعمال عمه ودخل في مشاريع كبرى حيث كان احد المقاولين الذين شاركوا في تنفيذ خط التابلين في اواخر الاربعينيات من القرن الماضي. ايضاً اصبحت شركة زيد مع عمه احدى الشركات العملاقة التي يتبع لها عدة شركات تعمل في انشطة تجارية وصناعية.
رزق زيد عائلة ببنات وبنين حرص على تعليمهم في كل من فرنسا وبريطانيا ثم عاد الى الرياض حاملاً معه شهادات عليا من جامعات مرموقتين هما السربون وكيمبرج.جميع اولاد وبنات زيد من المتفوقين دراسياً ومنضبطين سلوكياً لم يشذ منهم سوى منصور الثالث من حيث الترتيب في العمر وكان مثار قلق بالنسبة له. منصور مهمل دراسياً يدخن وهو لم يبلغ سن الحلم.
لا يختلف آنذاك بيت زيد في حي الملز الراقي القريب من شارع الاحساء في الرياض عن حالة تلك الشريحة في المجتمع، حيث اختلط فيها الحامل بالنابل … فلقد هبت رياح غريبة لا يُعرف من اين هي قادمة ولا الى اي اتجاه تسير … فبدأ المجتمع في التخلي عن مظاهر الانفتاح النسبي،شيئاً فشيئاً اختفت السينمات من الاندية الرياضية ومن البيوت ولم يعد تُرى النساء يرفعن العبايات فوق اوراكهن لتكشف عن الفساتين الزاهية ولا تُسمع الاغاني او تُشاهد المسلسلات المصرية تُشاهد في التلفزيون. كانت الرياض على موعد مع بداية مرحلة جديدة تطل برأسها عُرفت فيما بعصر الصحوة … وعلى أي حال فقد مضى اكثر من عقد من الزمن على قطع مسافة في الفضاء تبلغ ٣٦٨٠٠٠ كيلو متر انتهت بهبوط مركبة ابلو ١١ على سطح القمر ونزول الانسان على ذلك الكوكب،بينما الناس هنا لتو أفاقوا من العوز وبدأوا في التخبط والتلذذ بثروة انشقت من باطن الارض صدمت ثقافتهم وفتحت الابواب على مصراعيها امام انفتاح ساد فيه المال السهل والسفر بانواعه والابتعاث الى الخارج،وجعلت من زيد واقرانه يتشربون الحياة على الطريقة الغربية. بينما حصة ومن على شاكلتها ظلت أميه تقليدية ولكن صار لديها خدم وتعيش في فلة فارهه. والان اصبح لدى زيد مكتب فخم في شارع الضباب واستثمارات متنوعه في الصناعه والعقار وسوق الاسهم. يشرب سيجار كوهيبا ويحتسي الكأس ويسمع بتهوفن، فكان الاباء من هذه الطبقة في المجتمع مشغولون والامهات ايضاً لديهن ما يشغلهن في التسوق وتبادل الزيارات، فحين يخفق الابن في الدراسة فالمسألة لم تكن تعدو عن مجرد توبيخ لحظي تعود المياه الى مجاريها خلال بضع ساعات…كانت الوظائف بالنسبة لشباب خصوصاً المنتمين الى هذه المنزلة من المجتمع متوفرة ولا يحتاج الشاب إلا الى الحد الادنى من المستوى الدراسي، لذلك لم يكن الحصول الدرجة العلمية العالية هدفاً لكل من يريد الالتحاق بجامعه او بوظيفة كما ان باب الابتعاث كان مفتوحاً على مصراعيه خصوصً بعد ان قفز سعر برميل البترول من 4 الى 35 دولار فتضاعفت اسعار العقار الى ارقام فلكية…
في يوم الاحد اعتاد زيد زيارة الدكتور ناصر بن مزيد الذي يسكن في نفس الحي كان ناصر برفسور في جامعة سعود ثم اصبح مستشاراً في الديوان الملكي لفترة طويلة ثم تقاعد وصار لديه جلسه اسبوعية بعد صلاة العشاء في يوم الاحد عرفت بأحدية الدكتور ناصر. حضر زيد الجلسة مبكراً قبل ان يأتي الكثير من الحضور وجلس بحنب الدكتور ناصر فالتفت اليه الدكتور ناصر بعد ان رحب به قائلاً :وشخباركم يا اهل المال والاعمال ؟ الكل طاير في العجه الكل يطرد ورى الفلوس كل واحد جاب له عاملين سوى له شركة مقاولات حتى الفراشين صاروا على قولهم يطقطقون في العقار والخدم صار عندهم خدم … هذا شيء طيب خل الناس يترزقون الله … صحيح كلامك يا دكتور صار فيه ارزاق لكن ما فيه تنمية حقيقية
ركب منصور السيارة مع ابيه بانجاه حي المعذر قاصداً مدارس الرياض النموذجية من اجل استلام نتيجة الكفاءة،ابتسم زيد وهو يخاطب ابنه منصورقائلاً: ماذا تتوقع النتيجة ..؟ ان شاء الله اني ناجح يا يبه … شكلك واثق من نفسك يا منصور … ارتبك منصور … ليه يبه انت سامع شيء ..! لا يا ولدي بالعكس انا مبسوط من ثقتك بنفسك وشكلك ناوي تكون من الاوائل … كذا وإلا انا غلطان..؟ صحيح بس انا ليلة اختبار القواعد كنت مريض ولا قدمت زين في الاختبار واكيد بيكون له تأتير على معدلي العام بس مو مرة يمكن بيكون ترتيبي الرابع او الخامس .ماشاء الله عليك يا ولدي مع اني ما اشوفك تذاكر ..! انا يا يبه اركز في الصف واعتمد على شرح المدرس … تمام عليك وهذا هو الصحيح.توقفت السيارة عند باب المدرسة ونزل زيد وطلب من منصور البقاء في السيارة.عاد زيد مبتسماً وبيده ظرف وضعه على طبلون السيارة وادار المحرك باتجاه البيت وبقي منصور صامتاً متوجساً وكأنه ينتظر الحكم في قضية خسرانه.بعد ان استقرت السيارة في الطريق العام التفت زيد الى ابنه قائلا: اقول لك بكل صراحة بأني كنت خائف من نتيجتك ولكن يصراحة ابهرتني نتيجتك وهذا العشم فيك ولكن قل لي : ماهي النتيجة التي تتوقعها ..؟ يمكن الاول او الثاني على الصف ..! كان تخمين مبني على الابتسامات و الاطراء الذي لمسه وسمعه من والده لا على مدى جهده وتحصيلة الدراسي:بالفعل يا منصور انت طلعت الاول مكرر على الصف ..! اخرج الشاهدة من الظرف قائلاً:تفضل استلم شهادتك المرصعه بخمس دوائر حمراء ..! كل واحدة من تلك الدوائر شاهدا على اهمالك واستهتارك وهروبك من المدرسة لدشرة وشرب الدخان وهذه النتيجة الطبيعية والحتمية لمن يبيع نفسه لرفقاء السوء.تلطخت كرامة منصور من جراء انقياده بسهوله لهذا الموقف المخاتل الذي دبره له والده،فشعر بخيبة السارق حين يضبط بالجرم المشهود وبالمرارة في حلقة بعد ان بلع الطعم.لقد تعود على الدعابة والمزاح مع ابيه وعلى الذي والتلاعب بالكلمات.ولكنه لم يتوقع قط ان والده سوف يتجاوز الحدود المشتركة بينهما وان يهتك مشاعره على هذا النحو المشين.خصوصاً عندما اكتشف بان والده قد تعمد اسندراجه بعقل بارد الى هذا الفخ،ليصدمه ويعريه تماماً كما ولدته أمه.لم يعتاد زيد على اسلوب القسوة الطارئة مع ابنائة،بل على العكس فهو مغاليا في بذل العواطف،مؤمناً بالعقوبة اللينة المستمرة،مدركاً بأن ابناء اليوم هم اصدقاء الغد،إلا انه كأي اب يريد ابنائة ان يكونوا متوافقين مع المثال الذي يرسمه لهم في مخيلتة.ولكن جرى كل هذا الذي لم يكن في الحسبان بعد ان طفح الكيل ولم يعد يجدي نفعاً في منصور ألا باستحداث صدمة لعله يفيق بعدها .
تألم زيد لحال منصور فهو الابن الوحيد المدلل منذ الصغر وايضاً المخفق من بين جميع اولاده المتفوقين دراسياً.فبدأ بالتفكير بجديه في اعادة منصور الى الجادة الصحيحة التي تليق بالمستوى العلمي والاخلاقي للعائلة.خصوصاً بانه قد بات على اعتاب سن المراهة وعرضة لهبوب رياح قد تجنح به الى متهات لا يعلم به إلا الله.جلس زيد يتأمل إن كان هو السبب في تخلف منصور عن اخوتة فهل الافراط في الدلال والبذخ في المال من الاسباب التي جعلته يتخلق عن ركب إخوانه ..! ثم يجيب على نفسه فما بال اخوانه واخواتة نالوا بدرجة اقل قسطاً من الدلال مع ذلك تفوقوا ونالوا الشهادات العليا…فكر ان يعرضه على طبيب نفسي على غرار التربية في الغرب لكن استدرك بأن هذا الامر عيب وغير مقبول حينها في مجتمعنا،فلا يزال الناس يربطون بين الطب النفسي والجنون الامر الذي سوف يؤثر على مستقبله من الناحية الاجتماعية.
جلس زيد بعد المغرب في الشرفه المغلقة بالزجاج المطله على حديقة المنزل.كان جالساً على كرسي راتان احمر حوافه قد رصعت بدبابيس مذهبه،مصنوع من الخشي الاندنوسي البني الغامق والارضية مفروشة بسجاد ايراني فاخر من نوع كاشان،وفي السقف ثريا من المورانو المعشق،قناديلها مصممة على شكل اكواب زهرية اللون وفي كل كوب شمعه توحي بالاناقة والرقي والثراء.وهناك على صفحات الجدران لوحاتان زيتيتان رسمتا بريشة الفنان المشهور ديفيد روبرت يغلب عليها لون الصحراء البسكوتي،احداهن لجمال تسير بمحاذات شاطيء خليج العقبة،والاخرى لقافلة تعبر ممر جبل الطور في سيناء،ذلك المكان الذي الله جل جلاله كلم فيه نبيه موسى وسلمه الوصايا العشر.سمه جرس الهاتف فالتقط السماعه بتراخي وملل،فاذا به صديقه الانجليزي جيمس نايتس على الخط،جبمس فاحش الثراء يمتلك شركة دعاية واعلان كبرى في بريطانيا. تعلرف عليه في معرض للاثاث الانتيك في ايل سكورت في لندن اثناء دراسته هناك.بدأت المكالمه عاديه إلا أن صديقه الانجليزي لا بأن مزاجه مشوش،فابلغه زيد بأن حال منصور بات مقلقاً فاشار عليه جيمس بارساله الى مدرسة داخلية في بريطانيا وبالتحدي مدرسة (إيتين) في وينزور غرب لندن. بعد نقاش طويل مال زيد الى هذه الفكرة. وبعد ان اغلق السماعه قذف بالفكرة على حصة وهي عند الباب تتأهب لتسوق،فردت عليه على عجل: طيب … طيب… نشوف بعدين … رصّ زيد هذه الكلمات المتقاطعه واعتبرها موافقة ضمنية من حصة.
سافر منصور ولم تنم حصه من البكاء على فراق ابنها الصغير، الذي لم يتجاوز الخامسة عشر، بينما استقبله جيمس في مطار هيثرو واخذه الى مزرعته في (بيتيرز فيلد) جنوب لندن الى حين ان تبدأ الدراسه بعد اسبوع من الان . نام منصور في كوخ انجليزي في المزرعه، فاستيقظ مبكرا بتلهف، ليرى المكان الذي وصله ليلا، فنظر من خلال النافذه فرأى مشهدا ظن للوهلة الاولى بأنه حلم، وضع جبهته على زجاج النافذه البارد ليتحقق من مما يرى .. ! ثم ادخل رجليه في فتحات البنطلون بعجل وهو يتمايل، وهرع مسرعا الى الخارج بغية رؤية المشهد، بينما فريق التصوير والمخرج ومساعدوه صارو يضحكون ويصرخون طالبين منه الابتعاد، إلا ان منصور لم يستطع مقاومة عاصفه الاشتهاء التي اثارت جميع غرائزه المدجنه، وانسته كل الممارسات والنصائح المنطقيه التي كان والده مراقبا وحارسا عليها، فبدافع الخوف من القانون البريطاني الذي يحضر على منهم تحت السن القانوني مشاهدة المناطق الخاصه في جسم الانسان، أضطر طاقم التصوير لابعاده قسرا عن مشهد لفتاه عاريه تماما تجلس على باله من التبن، المشهد عباره عن احد اللقطات الاباحيه التي تقوم بها شركة جيمس للدعايه والاعلان لصالح كل من مجلة بلاي بوي وصحيفة الصن اللندنيه المتخصصتان في ترويج الاباحية والفضائح . . ! علم جيميس فتضايق من ما جرى، فاراد ان يتصرف قبل ان تحمل اجنحة الفضيحه الخبر الى زيد، فهو يعرف العادات والتقاليد المحافظة للمجتمع السعودي،ففكر في ابعاد منصور عن المزرعه، فاتصل بمدرسة وينزير فابلغوه بامكانية ان يأتي منصور مبكرا الى حين ان تبدأ الدراسه بعد اسبوعين، وان هناك طلبه اجانب قد وصلوا والتحقوا بسكن المدرسة، فاتصل بزيد وابلغه بانه ينوي ارسال منصور الى سكن المدرسه للتهيئته للدراسه، وبالفعل وصل منصور الى مدرسة وينزير برفقة جيمس الذي تنفس الصعداء خشية ان يظهر امام صديقه كمن اراد ان يكحلها فاعماها. كان في المدرسه عدد من الطلبه الاجانب من ابناء الاثرياء، من ايطاليا والبرازيل وايران وروسيا ، يمتلكون طائرات خاصه وسيارات فراري وعقارات في اوربا، معظم هؤلاء جمعوا تلك الاموال عن طريق علاقات مشبوه بالمافيا وغسيل الاموال وعمولات صفقات اسلحه في السوق السوداء، كما ان الدراسه في وينزير بالنسبة لابناء هؤلاء هو شيء اقرب الى الوجاهه منه الى الحاجه، على العكس من ابناء الطلبه الانجليز حيث كان لهم برنامجا خاصا ومنفصلا عن الاجانب. كانت الايام الاولى صعبه بالنسبة لمنصور، بسبب الوحده والغربه والملل الى حين ان تعرف على طالب من ايران اسمه بختيار، كان ذات يوم يجلس منزويا خلف شجره يدخن، مر منصور من امامه صدفة فناداه وعرض عليه سيجارة، لم يتردد بل قبل الدعوه بتلهف، فلقد مضى عليه اسبوع لم يدخن خلالها سيجاره واحدة، اخرج بختيار من جيبه ورق بفره شفاف لونها اصفر قليلا، ثم وضع في كف منصور قطعه لونها بني غامق في حجم حبة الحمص، وامسك بسيجاره وافرغ ما فيها من تبغ في كف منصور، ثم بدأ يفت القطعه ويخلطها بالتبغ باصبعي الابهام والسبابه، وبدأ يلفها بورق البفره بحرفه واتقان، بينما منصور كان مستكينا في جلسته، يراقب وينتظر اللحظه الحاسمه التي يشدّ فيها النفس الاول منذ اسبوع، اشعل بختيار السيجاره الغير منتظمة الشكل، واخذ نفسا قويا انبعث منه دخان ازرق متموج، ثم اعطاها لمنصور وفعل نفس الشيء، دارت السيجاره بينهما عدة مرات، حينها كان بختيار يبتسم ويحدق في منصور، بينما الاخر كان يشد الانفاس منغمسا في غفلته الهانئه، فشعر بالخدر وبالارتفاع الى شاهق الذرى، وانفصل تماما عنما حوله،بعد ان صارت الافكار في رأسه مثل الارشيف الملخبط وثقل لسانه، طلب منصور من بختيار سيجاره اخرى، فضحك بهزل وقال له : لا .. هذا يكفي .. ! جرجر اقدامه وذهب الى الغرفة انهار وخر جسده على السرير، كحطام زورق صغير قذفت به الرياح على شاطيء من الصخور الوعره.استقيظ قبيل الغروب ونظر الى الساعه فانصدم عندما عرف بأنه قد نام قرابة اليوم ونصف .. ! فاتجه على الفور الى غرفة بختيار، فجذبه اليه بقوه وهو غاضباممسكا بقميصه من العنق قل لي : ماذا وضعت لي في تلك السيجاره ؟ لم ينفعل بختيار وطلب منه ان يهدأ واجلسه على السرير بينه وبين صديقته جوديث الاسرائيليه وقال : اسمع يا منصور هذا نوع من انواع الكيف القوي اسمه … غبار الفيلة… الفارق بينه وبين اي كيف اخر هو ان ورق البفره مشبع بمحلول يُستخدم في تخدير الفيلة، لذلك صار اثره قويا، سامحني لم اكن انوي الحاق الضرر بك، بل كنت احسبك من اصحاب الكيف، المهم عندي كيف من النوع العادي الخفيف، فقالت جوديث: صحيح هذا النوع مريح جدا، انا استخدمته عدة مرات ولم يسبب لي اي اذى سوى الراحه والهدوء، تسرب كلام جوديث بهدوء ورقة الى قلبه ، فأحس بختيار بذلك، فاشعل سيجاره واخذ منها نفساً، ثم دارت السيجاره بينهما … فودع منصور طفولته وطيشه البريء ودخل في عالم الهبايب من اوسع الابواب.