الكنهري مهبول الحي …
بقي زيد في بيت عمه حسن في دخنة لأشهر حزيناً مهموماً ومعزولاً عن من حوله٬لا يتجاوز عتبة الباب خوفاً من عيون الوشاه منتظراً الخبر الذي سوف يخلصه من هذه الاصفاد المكبلة قدميه.كانت الاشاعات شحيحة والاخبار اكثر شحاً، فلج به التفكير وانتاب قلبه الوسواس امام واقع يعمه الصمت.سمع زيد اخبار من هنا وهناك بان البعض من الناس يكدسون الطعام تحسباً لسبع سنين عجاف،ناهيك ان الموظفين قلقين من تأخر رواتبهم والتجار قد جاؤا بحراس لحراسة دكاكينهم في الليل، والناس يترقبون اي خبر جديد لعله يصب باتجاه نهر الخلاص وقرب الفرج.جلس يقضي وقت طويل امام النافذة يحدق النظر بعينين حادتين محاولاً رصد وتفسير ملامح المارة او قراءة شفاه حديث يدور بين اشخاص. عمه حسن رجل واصل ودرس في مدرسة الامراء لكنه كتوم واحياناً يرمي بعض الجمل التي تحمل دلالات ولكن في معظم الاحيان كان يقول كلمات عامة … الله يريد بنا خير … نسأل العافية … كل شيء بتقدير العزيز الحكيم وما الى ذلك … لكن زيد فطن يستنبط منه افكار ويحللها. كما كان يسمع صوت الراديو في الحوي ويسترق السمع لاحاديث عمه مع زوجتة فتكونت لديه قناعة تخفت وتتصاعد بأن هناك رياح غريبة سوف تهب على البلد من اماكن متفرقة تحمل معها امرً وشيك الحدوث. ينتاب زيد شعور بأن ما ينتظره بشغف سوف يحدث فجراً في احد الايام لذلك لا ينام إلا بعد طلوع الشمس٬ يقضي الليالي في قراءة القرآن فجميع الكتب التي كانت بحوزته تمت مصادرتها. فقد دأب على الوقوف امام النافذة ليشاهد الناس بعد صلاة الفجر يجتمعون في الساحة التي امام بيت عمه تدور بيهم احاديث يلتقط منها بعض الجمل واشارات الايدي اذا رفع احدهم صوتة معارضاً او متفقاً مع رأي تُرجح ما كان يدور في ذهنه من أن شيء ما قادم. ذات يوم لاحظ على غير العادة وجود حشود من الناس بعد صلاة الفجر في الساحة التي امام المسجد والمقابلة للبيت اكثر بكثير وقد مكثوا الى بعد شروق الشمس. فبعد ان تفرق الناس من الساحة زرافات ووحدانا لا حظ ان صوت الراديو الذي في الحوي اصبح عالياً في وسط جو من السكون. استمر الحال حتى قرب صلاة الظهر ثم غلب عليه النوم ودخل في سبات عميق.
قبيل صلاة العصر استيقظ زيد على صوت باب المجلس يقرع فنهض محاولا بكل صعوبة رفع جسده عن الارض واذا بزوجة عمه تقول : اسمع يا زيد :ترى عمك يبي يجي بعد اشوي علشان يروح معك مشوار بعيد اشوي …ساوره الشك بعد ان سمع كلامها فرد عليها : طيب ما قالك وين ..؟ لا هذا الي قالي ..! مضت ساعه وكأنها ايام واذا بعمه وبوادر الحزن والتعب قد اخذت منه مأخذ ثم قال : عظم الله اجرك يا زيد الوالدة تطلبك الحل توفت اليوم الفجر ويا الله نروح لم الطف نحضر الدفن واعمل حسابك انك بترجع معي بعد العزاء. كان الخبر صادم خصوصاً بأنه كان يتوقع امراً اخر يفك من اسره ولكن جاء الخبر الذي يؤكد بأنه لن يرى امه التي كان يتضور الماً وشوقاً ليراها. في المساء تحت سماء صافية مرصعه بالنجوم حفر قبر امه وفي اليوم التالي وضعها في اللحد كسفينة ترسو في ميناء معلنةً اخر رحله لها،فخرج من القبر مثقلاً بالحزن.
عاد الى منزل عمه بعد انتهاء مراسم العزاء والاتيكيت الممل الذي صاحبه، فلم يعد ما كان يحلم به يحرك ساكناً في مشاعره، فقد فقد الصدر الحنون الذي كان قد بقي له في هذه الدنيا. عاد زيد للجلوس في نفس المكان الذي قضى فيه عدة اشهر حبيس المكان والزمان. في زاوية المجلس منضدة خشبية لونها بني وجد فوقها اوراق وقلم وظروف رسائل جديدة.فامسك بالقلم و بدأ يكتب رساله الى امه تحت عنوان (رسائل شوق الى امي) ومن اول السطر … لم يبقى شيء في الحياة يرعى اهتمامي سوى ذكراك في ذاكرتي، لقد نضبت الامال والاماني بعد ان اصبح نبع الحنان تحت الثرى،فلن أنعاكِ بعد اليوم بل انعى نفسي حين اذكرك في الخيال. استمر يكتب الرسائل ويضعها في ظرف يغلفه من ريقه بطرف لسانه ثم يرميها بها في كرتون صلصه فارغ في زاوية المجلس.
صار عمه اكثر قرباً وليناً معه، فدخل عليه يريد ان يواسيه ويأخذ بخاطره المكسور وان الفرج قادم وقريباً والامور تبي تزين باذن الله … فقال له زيد : اسمع يا عم انت ما قصرت لكن انا بعد وفاة اميمتي ما عاد يهمني شيء، لقد تلقيت ضربة جعلت من السجون والمطاردة من توافه الامور، وعلى كذا انا ناوي امارس حياتي جيزي من جيز الناس والي يصير يصير … ايه ما يخالف يا ولدي لكن خلك حذر ولا تنسى كلام الرجال الي قال لك ان الثوب لو يبعد عن النار يسلم من الشرر،وانا عارف انك رجل فاهم ولا تحتاج من يوصيك. وش رايك اطلع معك هالحين نشري لك ثياب زينة علشان تطلع قدام الناس بلباس جمل، وابد ما يحتاج اوصيك البيت بيتك وابا اعطيك مفتاح علشان تدخل وتطلع على كيفك… لا خلى ولا عدم يا عم …
صار يخرج من البيت من الضحى الى بُعيد الغروب،مهموماً هائم الخطى فبعد فُقدان امه قد جرف الحزن من أي اهتمام في باله، ويشاهد ما يدور من حوله ويحاول سماع احاديث الناس عن قرب. واذا سأله احد عن اسمه يقول : من سائر الناس … موضوع الساعه على السن الناس في المساجد والاسواق وهناك من ينفي الاخبار واخر يؤكدها واخرون بين منزلتين. معتوه الحي (الكنهري) يجوب الشوارع وكأن شيء لم يكن، لا يعبه ولا يفكر في هموم الدنيا ربما الشيء الوحيد الذي تغير عليه ان الناس صارت منشغله وتصد عنه اذا مد يده لهم. لكن زيد كان يرأف بحاله ويعطيه بعض القروش كلما قابله فيقف معه ويستمع اليه وهو يهذو بكلمات وجمل مبهمه لكنه كان يؤدي حركات تفسر بعض ما يريد ان يقول فبعد ان يفرغ من الثرثرة يسكت برهه ثم ينفض يده ويعض اصابعه كنايه عن الخوف من شيء ما.يقلد العسكر في حركاتهم ربما شاهد تواجد امني غير معتاد. ظل زيد يطوف بالشوارع يسمع اراء الناس المتباينة ربما الشيء الوحيد الذي يجمعهم هو الشعور بالقلق والخوف من المستقبل.في ذلك اليوم عاد عمه الى البيت وسأل عنه فقالت له زوجتة بأن خرج بعد العصر فهب عمه يبحث عنه في الحي فقابله في سوق مقيبرة فهمس في اذنه وقال : زيد لازم نرجع البيت الان فعادا الى المنزل وبعد قليل جاءه عمه يحمل الراديو ووضعه امامه بعناية وكأنه يضع طفل رضيع. ثم قال : فيه بيان من الدولة بيصدر بعد اشوي … بعد ساعه صدر البيان المتوقع خلع ملك وتنصيب ملك جديد،البيان يؤكد بانتقال سلمي لسلطة، لكن زيد استقبل البيان ببرود وعدم اكتراث فعجب منه عمه فسأله عن السبب فقال : لا فائدة يا عم الرجل الذي قابلتة اي الملك الجديد من المستحيل الوصول اليه … عرف عمه ما يرمي له زيد فقال : لا تهتم الي حصل بشارة خير والامور تقاس بخواتيمها والي تبيه بيحصل بس اصبر اشوي وترى لصبر حلاوة لا تقل عن حلاوة الفرح بالشيء.