الثوب لو يبعد عن النار يسلم من الشرر …
عند الاصيل توقفت السيارة في مركز خَِرِب على حافة الدهناء، بين تلال حمراء وقعت عليها اشعة الشمس الذابله، فانقبض قلب زيد، عندما سمع السائق يقول: ترانا وصلنا خريص اعطوني توابعكم، فقال له زيد ليس لدي تابعيه، فاتجه السائق الى المركز ليسجل اسماء الركاب، ثم عاد ومعه عسكري قصير مكتنز له شارب جناحيه مرفوعين للاعلى. طلب من زيد النزول من السياره، ثم سأله عن اسمه .. ؟ انا زيد الثريا من اهل الطف… والنعم حمولة طيبه ومعروفه … وين تابعيتك يا زيد ..؟ نسيتها في الدمام … فانفرد الرجل بزيد وهو ممسكا بيده من المعصم، ثم نظر اليه بقلق … فقال له: ما يهمك انتظر هنا، سوف احاول اقناع العريف واعود اليك، ثم اختفى الرجل، فخيّم صمت طويل لا يُسمع فيه سوى صرير الرياح البارده ، فبعد طول انتظار اتى عسكري اخر وقاد زيد الى المركز واودعه الحجز في غرفه بارده قذره ومظلمه. بعد ان امضى اربعة ايام نُقل زيد الى سجن الحاير في الرياض، فعاش بعدها معاناة التردد على السجون، فكلما اطلق سراحه من السجن اعيد اليه مره اخرى، وفي كل مره يُستجوب فيها تكشف لهم عثرات لسانه تهما جديده لا حصر لها،فسأم من الحياه في الرياض الامر الذي جعله يفكر في الهجرة الى اي مكان في العالم،فقرر ذات يوم ان يقابل أميراً بارزاً على صلة بالعديد من وجهاء عائلته. بات يتردد على مكتب ذلك المسؤل فتوصل اليه بعد عدة محاولات وصعوبات، انتهت بضربة حظ مكنته من الدخول عليه.كان ذلك الامير رجلا قد تجاوز الخمسين، لكن التجاعيد المبكره حول انفه الطويل، قد اضافت عقداً من الزمن على عمره، فمنحته وقار الشيخوخه وهيبتها، نحيل ذو وجه طويل له عينان واسعتان برموش طويلة وله ذقن خفيف من دون عوارض قد غالب عليه البياض، يضع عقال مقصب ويرتدي مشلح اسود خفيف،حين يتكلم او يستمع لا تظهر عليه علامات الرضا او السخط. دخل عليه زيد ووقف امامه ثم سأله: ماذا عندك ..؟ انا زيد الثريا طال عمرك لقد سأمت الحياة في البلد وتعبت من التردد على السجون بدون سبب، فلم اعد احتمل العيش هنا، فان كنتم ترون انني مصدر ازعاج لكم فانفوني من هذا البلد الى ارض الله الواسعه … وراك …؟ الى هذه الدرجة لا تحب بلدك يا زيد .. ؟ بلى احب بلدي ولكني بت اشعر بأن بلدي ما تحبني … ابتسم الامير ابتسامة ساخرة بطرف فمه ثم رفع رأسه ببطيء ونظر الى زيد ثم قال قلي : وش عقيدتك يا زيد؟ عقيدتي باني احب الله فوق السموات السبع واحب تراب هذا البلد للابد … وليه يسجنونك ..؟ كنت ادرس في المدرسة الاولى في الدمام وسكنت مع طلاب ما اعرفهم إلا من المدرسة وجاوا المباحث ولقوا عندهم كتب ممنوعه انا ما لي علاقة فيها ابد… وبعدين يا زيد : هربت والان انا مطارد … اهاه … اسمع يا زيد : اذا كنت كما تقول فعليك بالصبر يا ولدي، و سوف انظر في امرك متى ما زالت الغمة عن البلاد والعباد… متى هذا يا طويل العمر ..؟ربما اكون حينها قد عدت الى السجن..! فبعث اليه الامير بنظره متأنيه وقال: بين الوعد والوفاء به مسافه لا بد منها، وتذكر يا زيد بان الثوب لو يبعد عن النار يسلم من الشرر … فهم زيد مدلول العباره وايضا تلقى الاشارة المرسلة من نظرات الامير بان وقت المقابله قدانتهى، فودعه بعد ان قبل رأسه وكتفه الايمن. فكر زيد في كلام الامير وقرر بان يغير مكان اقامته،تحسبا لاي مداهمه، فتذكر بان عمه حسن الذي لم يره منذ زمن طويل، يسكن في الرياض في حي دخنه، فاتجه الى هناك، وصل الحي متسللاً بين البيوت من حي الى اخر حتى وصل حي دخنة الذي يسكنه عائلات الوجهاء والمشائخ،فسأل اطفال الحي عن مكان البيت فدله عليه احدهم، خبّط على الباب عدة مرات ولم يجبه احد، ثم عاود الطرق ولكن بلا فائده، فاحس باليأس وبانسحاق في قلبه، فاسند ظهره الى الجدار وكتّف يديه وسرح يفكر ..! رأى من بعيد معتوه الحي ، شاب بدين لم يتجاوز العشرين، يلبس ثوب بني قصير وقد حشر جسمه في جاكيت اصفر، قد اهترى وتمزقت جوانبه من فرط السمنه، يسمونه (الكنهري) جاء يسحب قدميه مثيرا للغبار يلف شماغا باليا حول عنقه، اقترب من زيد وقال : اعطني ربع ريال قالها وهو يبتسم ابتسامة عته،فاعطاه زيد وقد لا حظ انتشار القمل حول رقبته، وطلب منه زيد الانصراف فانصرف بعد تردد.وفي تلك الاثناء وقفت سياره اجره امام المنزل نزل منها رجل وامرآتان دخلتا البيت على الفور، بينما اقبل عليه الرجل ورحب به بحراره ولم يسأله عن سبب مجيئه، بل عانقه وقد دمعت عيناه كدرا عليه،لعله كان على علم بمعاناته . فامسك بيده برفق واصطحبه الى البيت واجلسه بجانبه في المجلس وتبادلا عبارات الترحيب، ثم شرع زيد يفضفض لعمه بعد ان وجد منه تقبلا واحساس بصدى آلامه واوجاعه،تلك المرة الاولى التي شعر فيها بانه ضعيف ومكسور الوجدان واخبره بانه يحاول جاهدا نسيان هذا الجانب الكريه من حياته. فجأه نهض عمه من مكانه واغلق النافذه الوحيده في المجلس، ثم فتح الباب واطل برأسه وتلفت واغلقه بحذر، واغلق النافذة الوحيدة باحكام وعاد وجلس في مكانه ثم بدأ العم حسن الكلام بقلق وحذر شديد على مصير البلد في هذه الايام، خصوصا بعد تسرب اخبار عن صفقه يقودها وسطاء مشبوهين بين رجال اعمال سعوديين ويونانيين فيها تعدي صارخ على اتفاقية الامتياز الموقعه مع ارامكو، فاثارت غضبهم ودقة ناقوس الخطر في واشنطون، التي ارسلت رسائل تهديد بايقاف تصدير النفط، وان البلد سوف يكون على موعد مع الافلاس خلال مده اقصاها ثلاثة شهور … فعقب زيد قائلا : يا الله .. الوضع اخطر من خطير .. على كذا يا عم البلد تسير بسرعه عاليه وبلا هدف ..! بالضبط بل دخلت ازمه عاصفه واصبحت على حافة الانهيار يا زيد، ليس هذا فحسب، بل ان القصر قد تحول الى رمز للهو والتبذير، في وقت الناس فيه يعانون من تأخر صرف الرواتب، وشحت في السلع والمواد الغذائيه، ناهيك عن خطر الانقسامات الداخليه والتهديد من قبل دول الجوار وشعاراتهم القوميه الجوفاء التي اسكرت امزجة الكثير من طبقة المتعلمين، اما الطامة الكبرى يُقال: بان دولة عربيه قد حصلت على صور لشيكات جرى تهريبها من داخل القصر عن طريق حريم القصر، تثبت تورطنا في دفع مبالغ لمسؤولين كرشوه، مقابل افشال وحده ناشئه بين دولتين عربيتين، الامر الذي فتح الباب على مصراعيه لحرب اعلاميه ومهازل لفظيه ضدنا من قبل كلا البلدين وبلدان عربيه اخرى . فزع زيد وازداد ذُعرا من هول هذا الموقف، ثم قال بصوت أبح : لقد اصبحنا منعزلين داخل سياج نتلقى فيه نيران اسلحتهم المرتده، فما هو الحل برأيك يا عم ؟ جميع الامال يا ولدي معقوده على ان يخرج ذلك الرجل عن صمته ويدخل مسرح الاحداث، فنحن في امس الحاجه اليه في الوقت الراهن … اي رجل يا عم ؟ اقصد الرجل الذي أنت قابلته في هذا اليوم يا زيد ..! بُهت زيد وأطرق يُفكر ويستعيد شريط اللقاء ويدقق في كل كلمة قالها ذلك المسؤل … متى ما زالت الغمة … فبات يرددها في ذهنه مرارا … فصار لديه الان بصيص أمل ضعيف ولكن الاهم لو تحقق فانه لن يطول وسوف يكون قريب جداً. لاحظ زيد بأن عمه قد انصرف ربما رآه سابحاً في خياله فافسح له المجال.