المحدار …
لطالما حاول زيد التشبث في عمه صالح الذي اعتاد المحدار (السفر ) الى الزبير٬ وسط معارضة شديدة من أمه،على الرغم ان اهل الطف قد اعتادوا على سفر صغار السن لكسب الرزق،مع ذلك فهي ترى ان زيد لا يزال صغيراً لم يبلغ الحادية عشر من عمره٬ فضلا عن كونه يتيم الاب.سأم زيد في كل مرة من صعود نفود الغضا مودعا القوافل فقرر الاحتجاج عن طريق الاختفاء في اليوم الذي سوف تغادر فيه قافلة عمه. الامر الذي جعل امه تعيش في قلق وتجوب الازقة تسأل عنه في الاماكن والبيوت التي يرتادها بحثا عنه . حينها كان زيد يهيم بلا وجهه بين البساتين مطأطأ رأسه تلافيا لاشعة شمس الضحى موقناً بأنه قد اصبح رجلا يافعا ولم يعد له مكان في فضاء الطف ولابد من تجرع ترياق الرحيل الذي كان دوما لا يفارق مخيلته الشعواء … فجأة سمع صوت فلاح ينادي وقد لاح خياله من بين الأشجار … هيه يالي هناك … توقف زيد بعد ان اقترب منه رجل مسن ساقيه مقوستان يتأرجح في مشيه قائلا : ماذا تفعل هنا …! لا شيء … ومن اين انت ؟ انا زيد الثريا … والنعم يا ولدي ولكن مالذي جاء بك الى هنا وفي هذا الوقت ! اردت السفر الى الزبير مع عمي فاعترض على ذلك من اعترض فشعرت بالضيق والكدر فوجدت نفسي هنا. أطرق الرجل قليلاً وهو يلتقط انفاسه بعد ان هوى بجسده وجلس على جذع نخله مرمي على حافة الجادة وقال : اسمع يا ولدي ارجع لاهلك وكرر المحاولة بدلا من الهروب الذي لن يجدي نفعاً… ولكن ما الفائدة يا عم القافلة قد غادرت واذا فات الفوت ماينفع الصوت … مهما يكن توك شباب و القوافل لا تنقطع عن الطف وبعض الامور مثل لحمة الحاشي تحتاج وقت وصبر حتى تستوي، ثم اخرج الرجل بضع تمرات سكري من كيس قماش وضعها في يده المرتعشة وقدمها لزيد … وقال : انت فكر في كلامي وانا خلني اشوف شغلي وراي سني النخل والنهار قصير. ثم نصرف الرجل وهو يجرجر خطاه … بينما بات زيد يفكر في كلامه من دون أي اهتمام يذكر، فالبضع تمرات قد سدت رمقه واعانته على الغياب عن البيت لمدة أطول … مكث حتى حنى صار الظل يزحف و يسود الاماكن وامست طرق النخيل موحشة بفعل صفير الريح بين الاشجار. فاتجه الى النفود وصعد فوق أعلاها وجلس في حالة سكون ينظر الى الطف من علو يفكر في حال امه من جهه وفيما ينوي فعله من جهه اخرى ويستحضر في ذهنه كلام الفلاح المسن.إندست الشمس خلف الافق فلم يعد امامه سوى العودة مرغماً الى البيت رأفة بحال امه التي لن تُغمض لها عين قبل ان يعود. فسار باتجاه البيت بعدما ادلهم الظلام فدفع الباب بهدؤ تام كمن يخشى ايقاظ طفل نائم، وجد حوي البيت فارغا مظلما ثم اطرق قليلا فسمع صوت شخب الحليب في الطاسه فمشى باتجاه ضؤء سراج منبعث من الحوش فوقف خلف امه وهي منهمكة تحلب البقرة لدرجة انها لم تشعر بوجوده إلا بعد ان تجرّس فرمت امه بضفيرتها للوراء ثم نهضت وهوت عليه بصدرها وضمته بشده شعر ولاول مرة بقوتها الجسدية،بينما هو كان مسبلا ذراعيه متظاهرا بعدم الاكثراث بعواطفها، وبعد عناق وبكاء ودموع حاولت ان تعبر له عن حبها وحنانها بملاطفته بأصناف عديدة ومختلفه من الاطعمة على طريقة الكثير من الامهات. مكث زيد محجما عن الاكل والكلام وامه تتوسل اليه برقائق القول كجارية تتذلل الى اميرها ولكن بلا فائدة. ثم رفع رأسه نحوها وقال : اسمعي انا ما يمشي على الكلام المنمق الذي يُقال للعب على عقول الاطفال .. انا ما ني طفل تضحكين عليه بكلمتين .. ثم فجأة سمع زيد صوت عمه صالح ينادي فقالت له امه : شفت يا زيد حتى عمك اخر موعد سفر القافلة لكي يطمئن عليك … عندها شعّ الامل في صدره وترجل واقفا وخاطبهما بادب معجون بالصرامة قائلاً : اسمع يا عم وانت يا امي انا قد عزمت وقررت السفر سواء معك او بدونك كما ان موافقة امي مسألة وقت … ايه ما يخالف بس اجلس وانا عمك نتفاهم، المحدار ليس بالغريب عليك ولا على اهلك، وانت ما شاء الله عليك رجل عقلك قد سبق سنك وانت اليوم اصبحت رجل البيت وعليك واجبات اتجاه امك واخوانك خصوصا بعد وفاة ابوك الله يرحمه … صحيح كلام زيد و انا ما عندي مانع انك تروح المحدار لكن من يبقى لي بعد ما تروح … يا امي انت تعرفين منذ ان توفى الوالد وأخوالي ما يقصرون ولا يغيبون عن البيت يوم واحد… كذلك انت يا عم هماك تسافر وتترك زوجتك واولادك الصغار …؟ فالتفت عمه الى امه قائلا : ها وشتقولين يا ام زيد الكذب خيبة انا ما عندي جواب …! فاحس زيد بان هناك بصيص امل ودعم مستتر من قبل عمه … وشقول اذا انت يا عمه هذا كلامك اجل انا الي عندي جواب …! التفت زيد الى امه التي بدأت نبرات ردودها في التراخي فرمى بكل ثقلة لاستمالتها وقذف بآخر ورقة قائلا : هل تريدين ان تكوني سببا في عقوقي لك … ! لا ما عاذ الله ابدا يا ولدي إن شاء الله ما اكون انا سبب في عقوقك وانت ولد طيب بار ومحب لاهلك، لكن تدري امري لله ما لي حيلة مادام الامور وصلت الى التقصير في جنب الله، واذا كانت هذي رغبتك ما اقدر اقوا لا … واخيرا انتزع زيد الموافقة وفاز برضاها على الرغم من كل التحذيرات واصوات المعارضة التي تلقتها من قبل قريباتها .ولكن زيد يُرجع الفضل في اقناعها الى مشورة ذلك الفلاح المسن. جاء موعد الرحيل وودع زيد الطف متجهاً الى الزبير تاركا وراءه أمه التي اختلطت لديها مشاعر الحزن بتأنيب الضمير … فمن يا ترى يحجب الشوق عنها بعد غياب ابنها البكر ؟ انطلق زيد مع عمه الى الزبير والتحق بمدرسة النجاة الاهلية واستمر في العمل بعد الظهر في دكان عمه بسوق الجت بالقرب من مسجد البسام. تعلم خلال هذه الفترة فن البيع والشراء والتعامل مع الزبائن وضبط الحسابات. بعد مرور عامين استبدت به الرغبة في العودة الى السعودية بعد ان سمع بافتتاح مدرسة الدمام الاولى، شجعه على ذلك ان احد اقربائه يسكن هناك. سافر زيد الى الدمام بعد ان ودع عمه الذي دس حينها في جيبه كيس ورقي بداخله نقود. اقام عند قريبة في الدمام والتحق بمدرسة الدمام الاولى. ولكن بعد اقل من اسبوع شعر بنفرة قوية من مواصلة الاقامة عنده، فعلاقتهما تتسم بالتكلف على الرغم من الصلة الحميمية بينهما من جهة الام، ولكن بطبيعة الحال فتلك العلاقة جاءت متأخرة قد املتها عليهما ظروف طارئة،خصوصا بعد ان علم عرضا بان هذا الرجل ليس لديه سوى اربع بنات معظمهمن في سن المراهقة.فشعر زيد بان وجوده في البيت سوف يكون نشازا، مما اضطره لسكن في شقة مع زميل له في المدرسة اسمه ناصر تلافيا للاحراج .