وثيقة ..
كان الشيخ ياسين بو خمسين الرجل الثري والمعروف في الإحساء، لديه بستان مجاور لأحد بساتين الأمير عبدالله بن جلوي امير الاحساء آنذاك، فشعر ذات يوم بالظلم لعدم حصوله على الحصة التي يستحقها من مياه الري، والسبب في ذلك أنها قد ذهبت إلى جاره (ابن جلوي) الذي ظفر نصيب الاسد. فلم يجد الشيخ ياسين أمامه سوى أن يشكو حاله إلى ابن جلوي،الذي على إثرها أصدر ( الوثيقة رقم 90) والتي هي في غاية الأهمية والحساسية، بل ليس من المبالغة بمكان بأنها تستحق أن تدرج من ضمن المواثيق الهامة في تاريخنا المعاصر. فتلك الوثيقة هي عبارة عن أمر من ابن جلوي نفسه بتكوين لجنة بعضوية كل من الشيخ عبدالرحمن الراشد والشيخ محمد الموسى والشيخ حسين العرفج وآخرين. كما حثهم في الخطاب بتوخي العدل والأمانة والحكم بما يرضي الله سبحانه وتعالى.
إن غياب السلطة القضائية في ذلك الزمان،الذي كان مصاحباً لنشأة الدولة، جعل من حكّام الأقاليم يعتمدون على رجال من أهل الرأي والحكمة والنزاهة في حل المنازعات بين الناس،من خلال تكوين لجان يتم اختيار أعضائها بعناية فائقة من قبل حاكم الاقليم . شرعت اللجنة بالنظر في هذه القضية الغير مسبوقة في تاريخ الدولة السعودية، والتي قد تصدم مبتغى الباحثين عن وقائع تاريخية تطعن في عدل و نزاهة هذا الامير. فوجد الأعضاء أنفسهم أمام مشكلة عويصة وفي موقف كمن يحاول نزع فتيل قنبلة موقوتة ! فالهاجس الماثل أمامهم، بأن قول الحق سوف يجلب سخط بن جلوي عليهم. بل إن أكثر ما أستأثر اهتمامي، هو أن يصدر حاكمٌ عربيٌ (ابن جلوي) في ذلك الوقت وثيقة ( الوثيقة 9 ) تقضي بالشروع في محاكمة يكون هو نفسه المدعى عليه في القضية، بينما الطرف الآخر فيها هو أحد رعاياه..! ليس ذلك فحسب، بل إن الحكم الذي توصلت إليه اللجنة جاء ضده ! وذلك عندما وجدت اللجنة بأن صك الملكية ينص على أن البستانين كانتا أصلاً بستاناً واحداً من أملاك ابن ماجد، الذي باع نصفه لابن جلوي والآخر لشيخ ياسين وقسّم الماء بينهما بالتساوي حسب ما ورد في صك الملكية. كما أنه صفحة بيضاء ومشرقه في سجل هؤلاء الرجال أعضاء اللجنة، لشجاعتهم في الوقوف إلى جانب الحق. فالشيخ محمد بن احمد الموسى من رجالات الدولة المخلصين و قد ترأس املاك الدولة٬ و الشيخ عبدالرحمن الراشد لم يكن كأحدٍ من سائر الناس،بل كان وجيهاً من الطراز الأول، يُعتد به وبآرائه السديدة على نطاق واسع، أسس لنفسه ثروة و مكانة اجتماعية مرموقة بإصراره وصبره وكفاحه الدؤوب. كذلك الشيخ حسين العرفج الذي كان فارع الطول عظيم الجثة وضخم الأطراف و يتمتع بالدهاء وبسعة الحيلة وأيضاً بالظرف وخفة الظل. هؤلاء الرجال الأخيار ضربوا مثلاً رائعاً في حمل الأمانة وتحقيق العدالة وبعد النظر،كذلك الشيخ ياسين لشجاعته وإصراره على الوقوف في هذا المأزق الخطير في زمن كان البعض يعتبر مجرد الوقوف أمام (ابن جلوي) أشبه بمأزق لا ينجو منه إلا من كان على حق بيّن !
إذا كان ما أقدم عليه (ابن جلوي) يوم 25 جمادى من عام 1355 هـ هو بدافع تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس، ولم يكن مجرد حادثة تاريخية انتقائية أو من النوادر المتقطعة في سجل حياته الحافل بفرض السيطرة، فنحن إذاً بصدد وثيقة في غاية الأهمية، يستحق صاحبها التبجيل كما ينبغي، لسيطرته الشخصية على ذاته، ولإصراره على أن تأخذ العدالة مجراها ولو كان على نفسه. فلم يُعرف هذا الرجل عند العامة بالعدل بقدر ما عُرف باستخدام أقسى درجات العنف ضد العابثين بأمن البلد، وبتغليب الشبهة مكان اليقين، معتمداً في بعض الاحيان على الحدس العقلي الذي غالباً ما يفضي إلى نتيجة مؤداها التسرع في الحكم والمبالغة في العقوبة، فالزيادة والنقصان، والكثرة والقلة هي التي تفسد الأشياء، إذا لم يكن بينها برزخٌ من الاعتدال . فتداعيات تلك الأمور قد جيشت النفوس ضده، فشاعت في عصره قصص وحكايات تشبه الإسرائيليات، اختلط فيها الصدق مع من سواه. فمن المرجح أن سجله قد خلا من حادثة ظلم بواح واحدة، هذا على اعتبار أن ما ينتج عن التسرع والمبالغة في العقوبة ليس ظلماً متعمداً بقدر ما كان وسيلة ردع. علماً بأن الظلم قد يقع حتى بين الأتقياء، ناهيك عن حاكم يريد بسط الأمن في محيط مضطرب. ولكن ينبغي أن نُشير وبإلحاح إلى الظروف السياسية والأمنية في تلك الفترة، والتي كانت تعصف بإقليم الإحساء من كل جانب، متمثلة في جهات كانت تصارعه على السلطة حفاظاً على كيانها القبلي، وأخرى ترى في السلب والنهب طريقاً وحيداً لطلب الرزق، و على الجانب الاخر هناك اهالي يتوقون الى بصيص من الامن و أصحاب مصالح وأملاك يريدون حمايتها. فلربما تلك الظروف مجتمعة قد ألقت بظلالها على طريقته في التعاطي مع الأمور. لذا لا ينبغي أن نسقط عليه فهمنا الحالي لقيم العدل والتسامح من دون أن نضعها في إطارها العام لعصره وبيئته. فثمة شيئان رئيسيان في سيرته ومن الصعب الاختلاف حولهما، الأولى بأنه لم يجمع ثروة، والأخرى لم يكن يحابي أحد على حساب أحد، فالناس عنده سيان. يقال أن الحكماء قد أجمعوا على أن الفضائل أربعة هي ” الحكمة والعفة والشجاعة والعدل” فهل غابت عن بطل المصمك الأولى ؟ هذا مجرد تساؤل وليس رأي، ولعلني ذهبت فيه مذهب من يريد التوضيح لا مذهب من يريد الغلبة والجدال. ولكن المدهش في الأمر كيف لحدث بهذا الحجم أن يثير فينا هذا القدر الضئيل من الاهتمام..! بل كاد أن يتوارى من أرشيف الذاكرة ويسقط في بحر النسيان. رحم الله الامير عبدالله ابن جلوي رحمةً واسعة وجميع أولئك الرجال.