النظرة السوداويه ..
لم تكن براحة الجبري في حي العيوني سوى مركز العالم بالنسبة لي، أما المبرز فكانت العالم نفسه، محاطه بهالة من البساتين من جميع الجهات بإستثناء جهة الغرب. فلست أذيع سراً فأنا وغيري من ابناء جيلي قد لازمنا شعور منذ الطفولة بأن هناك نظرة سوداوية تراكمت عبر السنين تجاه الإحساء! فمن ناحية فالسودوايه هنا لا علاقة لها بالعنف او الدموية بل هي ابعد ما يكون عن ذلك. هي نظرة تتعلق بالشخصية الاعتبارية لهذا المجتمع٬ لدرجة أننا كنا نتقي الإفصاح عن أنفسنا خارج حدود الواحة، تلافيا لنظرة نمطية تلذذ الكثيرون بترديدها، لها علاقة بفرضية أن المجتمع بأسره عبارة عن طائفة معينه (شيعه) ولهم لهجه واحدة مثيرة لسخريه و غالباً ما تكون مدعاه لتندر الاخرين .
ظلت تلك السوداويه تطارد المجتمع الإحسائي ولم يشف منها إلى يومنا هذا . لقد جربت حظي مرارا في فهمها ولكن إدراكي مني بالفشل! مع التأكيد بأن السوداوية ليست بالضرورة أن تكون سلبية، فهناك العديد من المدن الجميلة والرائعة في حقبة معينة، وصمت بتلك النظرة، منها على سبيل المثال إسطنبول و سرايفو إبنان الحرب الاهلية و كذلك لندن عندما فتك بها مرض الطاعون. أيضاً السوداويه قد تكون سمة لأي مدينة فقدت بريقها وأفل نجمها لأسباب خارجة عن إرادتها. ولكن يبدو لي أن ماضي الإحساء الزاهر لم يعد كافيا لزخرفة حاضرها، مع ذلك أميل الى عدم وجود تلك النظرة عندما كانت الاحساء مركزاً تجارياً و مورداً هاماً لخزائن اقوام تعاقبوا السيطرة عليها. و حتى بعد ان فرد المؤسس جناحيه عليها واعادها لحضن دولة التوحيد لم تشفى الاحساء من مرض السوداويه .
لكن الحياة علمتنا بمجرد أن ينسحب البساط من تحت الأرجل فعليك أن تتوقع كل شيء .. حتى تقدير الناس لأهلها “الحساوية” يأتي مترددا يتخلله شك وحذر..! مع ذلك نسمع أحيانا من الآخرين جمل جاهزة تمجد الإحساء وتصف أهلها بالطيبة٬ بطرائق تتسم بالوضوح والغموض في آنٍ معاً٬ بعبارات مصفوفه تُقال في المناسبات كأنهم يحاولون ترميم صورتها بالكلمات المجردة. أيضا أهل الإحساء أنفسهم استجابوا لتلك النظرة وألبسوها ملامح الأم المسكينة التي تسعى وتشقى في مواجهة عقوق الآخرين. أحيانا تنزلق بنا الأحاديث إلى موضوعات تتعلق بالحديث عن ما يشعر به الآخرون تجاه الإحساء كموطن للكوليرا والحمير والذباب٬ مع قليل من الاعتراف بثروتها وبفضلها كمركز للعلم والتجارة وبخيرها المتمثل في النفط ووفرة المياه والمحاصيل وإتقان الحرف. فالرؤى السلبية المتواترة تجاه أهلها، أفرزت صورة ذهنية عنهم، أشبه ما تكون بمشروع إنتقاص تُعوض فيه المُخيّلة عن النظرة الواقعية المتمدنة، فلما لا ؟ فالخيال أكثر سخاء من الواقع!
قبل قيام الدولة، لم تكن الخبر سوى أرض سبخة لا تُنبت ولا تسدعي الاهتمام، أما نجد فكانت مراكز القوى فيها تتجاذب فيها الاعنة، صحاري ظمآنة يحجب الغيث نفسه عنها دهوراً طويلة، وآفاق مزدحمه بالفخاخ والمخاطر المفزعة. شاعر احسائي زارها ورسم الصورة:
يا نجد مافيك بطيخ – ولا قفص ولا سعنه
مافيك إلا الصلافيح – ومجاذب الاعنّــــــه
فبيت القصيد يرزح في عجز البيت الثاني (مجاذب الاعنه!) هي بالفعل صورة دقيقة تحاكي نجد في قيمها الاجتماعية، وفي موروثها الثقافي٬ بشقيها البدوي الذي اتخذ القتال وسيلة للبقاء والحضري المحارب و المتروي و المسلح بالدهاء . كان ذلك قبيل قيام الدولة واكتشاف البترول. ولكنها حتما كانت على النقيض مما كانت عليه الإحساء، التي تطبعت مراراً على حقب من الرخاء، فتحت شهية حكّام تعاقبوا عليها، ساعدهم في السيطرة عليها، نظام اجتماعي سائد شبيه بنظام اقطاع رحيم..! بمكوناته الأساسية من اقلية ملاّك و تجار و الباقين فلاحين وحرفيين. اما البادية فكانوا على التخوم والاطراف خارج تلك المنظومة. لذا عاش هل الإحساء بمنأى عن الحاجة الى التمرس على القتال والغزو و قطع الطريق، والقليل منهم ادرك اهمية تلك الممارسات حينما تحين ساعات القدر..! البعض اعتبرها مأخذا عليهم لعدم اهتمامهم بسلوك هم أصلا ليسو بحاجة إليه..! فقد ترعرع المجتمع في ظل وجود نظام وحكّام تكفلوا بحمايته من اجل حماية مصالحهم في هذه الارض. تلك الظروف مجتمعة، ربما رسّخت مفهوم الاستقرار وزرعت في وجدان الإحسائي الهدوء والطيبة، فأصبح المجتمع برمته غارقاً في الخدر الذهني الهادئ لروتينه اليومي. فهناك حقيقة محيرة ومزعجه وهي ان الناس الذين يملكون اشيئاً تستحق القتال دفاعاً عنها لا يشعرون بالرغبة في حمل السلاح و القتال..! أي إن الذين يعيشون حياة مليئة بالرغد وذات قيمه لا يكونون عادة مستعدين للموت. ولكن لو افترضنا جدلا أن هؤلاء انشغلوا بالكر والفر، عوضا عن الفلاحة والصناعة والتجارة، فلن يكون لهذه الواحة المزدهرة وجود. خصوصا أنها كانت واحة آمنة نسبيا ومعزولة بأسوار، ومحاطة من كل الجهات،بكل مستحيلات الزمان والمكان،التي لا طائل من نفخ الحياة فيها.
كما أن اصحاب الاملاك أنفسهم استطاعوا إلى حد ما حماية أملاكهم من سطو القبائل في فترات الضعف أو الغياب المتقطع للسلطات المتعاقبة، من دون الحاجة إلى ركوب صهوات الخيل وخوض المنايا، عن طريق الكرم الموجه والهبات المسيسة وأحيانا المصاهرة، الأمر الذي يعزز أن السيادة موهبة والوجاهة فن وكلاهما تدخل في ظروف النشأة والتربية.
لكن نظرة الآخرين النمطية بأن الاحساء جلهم من الشيعه ولهم لهجه منخرعه فيها مط و ضم لا زالت تطارد اهلها الى يومنا هذا. و للاسف هاهم اليوم وبعد عقود طويله٬ يقوم البعض من اهلها في مواقع التواصل الاجتماعي بعمل مقاطع بتعمد لهجه مبالغ فيها من اجل اضحاك الناس و كسب المتابعين على حساب كرامة انفسهم ومكانة منطقتهم..! أي ان حفنة من السذج و البلهاء يحاولون ترسيخ ما تحاول الاحساء ان تنفيه عن نفسها.
في الاحساء سنه و باديه و شيعه تمتزج الاولى والثانية نسبياً اما الاخيرة فتعيش في سلام ولكن من بعيد لبعيد ..! و قد ذكر علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر في كتابه (من سوانح الذكريات) شيء قريب من هذا. إن هذا النمط من التعايش لم يكن سوى سمة حضارية قلما تجد لها نظير في شبه الجزيرة. ومما يثير الاستغراب والدهشة، أن يأتي الان ومن اصحاب النظرة السوداويه من جميع المناطق من يمجد و ينادي باتخاذ نمط التعايش في الاحساء كمثال يحتذى به ..! لكنه مجرد نداء وضجيج لا يرتقي إلى مستوى الممارسة، ولكن لا عجب أن للحقيقة وجهين وللناس أيضا !
فالسنة بمذاهبهم الأربعة والشيعة بمرجعياتهم المختلفة. أما بادية الإحساء فلقد نأوا بأنفسهم خارج منظومة الانتماء الحقيقي للواحة، على الرغم من دورهم الفعال في الحركة الاقتصادية. أيضا لا بد من التنويه عن البعض من شعراء البادية الذين عبروا عن حبهم العميق للإحساء من أمثال شبّاب العتيبي وسعيد الحمالي وخالد بن بادي العتيبي، ومن الشيعه الشاعر جاسم الصحيّح و الشاعرة حوراء الهميلي من خلال قصائد لهم في غاية الروعة والجمال. لكن ربما الذي يؤخذ على أهل الواحة بوجه عام، هو الاغراق في المحلية و غياب عنصر المبادرة و البروز، فلقد بقى لدى كل فريق اعتقاد، أن الانحياز الفئوي واجب طغى في أغلب الاحيان على الانتماء الإقليمي و الوطني، فأثر سلبا على تعزيز مكانتهم لدى الآخرين.