عدم الاكتراث … لا تكن ملفتًا للنظر …!
عندما باشرت عملي عام 1998م، على وظيفة (الملحق البحري في بريطانيا) قررتُ السكنَ خارج لندن، -وتحديدا في قرية (كلانفيلد) التابعة لمقاطعة هامشير- فلامني البعض؛ لأنهم يرون أن المكان المناسب هو حي (أكتون)؛ لقربه من أكاديمية الملك فهد، ويقطنه معظم السعوديين، ولأن قرية (كلانفيلد) تبعد مسافة ساعة عن مقر العمل.
حي أكتون – ببيوته المتشابهة الصغيرة والمتراصّة- أصبح نسخة مشوهة لحي إنجليزي، علاقته بلندن علاقة مكانية فحسب؛ إذ قد تحول مع الوقت إلى أشبه بحي عربي، معظم سكانه من العرب، لهذا ربما أكون ثاني شخصٍ أقدم على تجربة السكن والعيش في حي إنجليزي صرف، بعد زميلي صالح الربدي، الذي كان يسكن في سولزبيري. صالح رجل خلوق جدًا، ومن عائلة مرموقة وعريقة في القصيم، أما زوجته فهي امرأة فاضلة من أصل إسكتلندي، اعتنقت الإسلام قبل زواجها من صالح.
في الأشهر الثلاثة الأولى عانيت كثيرًا من كسر الحاجز مع الجيران، محاولًا الظفر بصديقٍ واحد على الأقل، من بين ١٦ بيتًا يجمعهم شارع فرعي ضيق، نهايته مغلقة. فلو قابلت أحدًا منهم لظننته أصمًّا، فهو لا يلتفت ولا يكاد يرفع عينيه عَمّا هو أمامه، أو الصحيفة التي يقرأها. بينهم تجانس عجيب كأنهم جميعًا ينتمون إلى مدرسة واحدة في الطباع. يتوارى الإنجليزي عن الناس بقدر ما يستطيع، فليس من عادة الجيران تبادل الأحاديث الودية على ناصية الطريق كما هو الحال بالنسبة لبقيةِ الشعوب الأوربية، ولا يَجلسون في حديقةِ البيت الأمامية على الرغم من عنايتهم الفائقة بها، بل يُفضّلون ممارسة ذلك في الحديقة الخلفية لمنازلهم حيث تكون اللقاءات محصورة على المدعوين فقط.
بوجهٍ عام الإنجليز لا يهمهم إن كانوا شعبًا محبوبًا أم لا…! ولا يعنيهم رأي الشعوب الأخرى تجاههم، سواء كان سلبًا أو إيجابًا…! فلا يُبادرون بالسلام إلا لمن يعرفون، وإن بادرت فينظر إليك باستهجان، كأنك تطلب منه شيئا. استعنت بالكتب؛ للتعرف على ثقافتهم، ولكن ظهر لي أنهم يكتبون عن الشعوب الأخرى ماعدا شعبهم؛ ربما نوع من الثقة بالنفس، أو من مبدأ أنَّ المعروف لا يُعرَّف…! لهذا لم أجد إلا كتابا واحدًا اسمه (English treats)، لمؤلِف أمريكي هو الفيلسوف ولدو أميرسون (Ralf Wldo Amerson)، إلا أنه لم يَرق لي؛ حيث خصص عشرين صفحة للثقافة الإنجليزية، ملأها بالمديح المبالغ فيه، وقد قال بعضهم: إن سبب ذلك هي أصوله الإنجليزية.
في الأشهر الأولى كنت أتعجب من حالة عدم اكتراث جاري السيد (جيف)، بوقوفي أمام بيتي، اللصيق ببيته، فحين يركن سيارتَه، نظل وقوفا بعض الدقائق، لا تفصلنا سوى خطوات، لكنه ينهمك في حمل أكياس التسوق، غير ملتفتِ لي، حتى بنظرة مُختلسة…! وهو فيما عرفت لاحقا، لم يكن مُتعمِدًا، فهناك ظاهرة اسمها عدم الاكتراث، أو التَمنع في الثقافة الإنجليزية، وأيضًا رفع الصوت والسلام من بعيد أمر غير معتاد لديهم، وأن تُحدِّق بنظرك إلى شخصٍ آخر مباشرة بلا سببٍ قوي يُعد في ثقافتهم تصرفًا عدائيًا.
من معايشتي لهم لا يوجد شيء يكسر الحاجز، ويُذيب الثلجَ غير ان تطلب المساعدة. فالدخول في حوار مع الانجليزي يتطلب سببًا مقنعًا، وهذا الذي اكتشفته بمحض الصدفة مع الجار (جيف) الذي تجاوز السبعين آنذاك، حيث لم يتأخر في تقديم المساعدة حين كنت مسافرًا واتصلت به زوجتي في وقت متأخر من الليل لإصلاح ماصورة في المطبخ. طرقت زوجتي عليه الباب ففتح الباب متجهماً فقالت له: إن كان يعرف سباكًا …؟ قال بكلِ ثقة: نعم، أنا.. مع إيماءة بإصبع السبابة نحو صدره …! ثم جاء على الفور مبتسمًا وهو يحمل صندوق العدة وأصلح العطل بعد ثلاث ساعات من العمل الشاق.
هذا الرجل كانَ أحيانًا يُبادر بنفسٍ طيّبة، ويأخذ أطفالي معه إلى إحدى البُحيرات؛ لممارسة هواية صيد الأسماك. علمًا بأنَّ (جيف) ينتمي إلى الحزب القومي البريطاني المناهض لهجرة الأجانب وتعدد الأعراق، ويحذر من أسلمة بريطانيا. بعد مرور عدة سنوات توطدت علاقتي بــ (جيف) فسألته -ذات مرة- كيف توفق بين علاقتك الحميمية معي، وبين انتمائك إلى حزبٍ مُناهض للأجانب والمسلمين …! فقال: ما يعنيني هو السياسات المتبعة، وليس الأشخاص، أنا فقط أريد الحفاظ على الهوية الإنجليزية أي البريطانية. فعلى الرغم من أن (جيف) قد أقنعني حينها، ولكن في حقيقة الأمر مهما كان (جيف) صادقًا فإنَّ القوانين هي التي تمنعه وتمنع غيره من المساس بالآخرين على أساس عرقي أو ديني. وهذه القوانين أصبح الوقت متأخرًا لتعديلها؛ فضلا عن تركها؛ إذ قد مضت أجيال على تطبيقها.
جاري الآخر (نيل) كان ودودًا، طيبًا أيضًا لا يتوانى في تقديم المساعدة. كان في طريقه إلى الدوام ذات يوم عندما شاهد سيارة زوجتي متعطلة في الطريق فهرع لمساعدتها وبدل الإطار بنفسه في يوم مطير شديد الرياح والبرودة. ثم عاد إلى بيته لتغيير ملابسه المبتلة والمتسخة من سواد الإطارات. وللعلم الجار (نيل) عضو غير بارز في محفل فرعي؛ لتنظيم الماسونية العالمية…! اكتشفه صديقي لبيب السامرائي في حديثٍ دار بينهما في بيتي. لبيب مثقف من الطراز الأول استدرج (نيل) في الحديث وسحب منه الاعتراف بأنه ينتمي إلى المنظمة الماسونية في مدينة بورسموث.
وفي النهاية هناك مقولة مفادها: إن الشخصية الإنجليزية في غاية الجمود، ولكن بمجرد أن تفك برغيًا؛ تنحل جميع البراغي بسهولة.