دوائر التأثير
بعد وصولي لندن، وعملي لمدة خمسة أسابيع، استُدعيت لمقابلة السفير غازي القصيبي؛ بناء على البروتوكولات الموضوعة من قِبَله، فتوجهتُ إلى مكتبه في الموعدِ المحدد وقدمت نفسي إلى السكرتيرة، التي طلبت مني الدخول إليه فورًا ومن دون تردد. فوجدته قد فرّغ نفسه للمقابلة، إذ لما دخلتُ عليه، وصافحتُه، وأشار إليّ بالجلوس، لم أجد على مكتبه إلا ورقة واحدة فقط، هي سيرتي الذاتية، أي ليس لديه عمل غيري. نصفه العلوي ضخم، وفي عينيه نظرة ناعسة، ترسل ومضات متفحصة. كان يُمسِك بمسبحةٍ لونها أخضر، يلفها بين أصابع يده اليمنى. فبعد أن فرغنا من تبادل العبارات الترحيبية شرع في الحديث قائلا: “أنا أعرف بأن لديك تجربة سابقة مع الإنجليز عندما كنتَ قائدًا لسفينة الجوف، وأتذكر في نوفمبر عام 1995م أنني كنتُ حاضرًا في حفل وداعكم في ميناء سَاوثهامْبتون”. قلتُ: “نعم يا معالي السفير، أتذكر ذلك جيدًا، وتشريفك لحفلِ وداعنا أمر لا ينسى”. فقال لي: “سأقول لك كلامًا خارجًا عن إطار الرئيس ومرؤوسيه، ولا يندرج تحت باب النصائح لأنَّ الناس بطبيعتهم ينفرون من النصيحة: لا تحاول أن تبذل جهدًا في تحسين صورتنا لدى الإنجليز، أو تُتعِب نفسك في تعريف الإنجليز بثقافتنا، هم يعرفونها جيدا. مع ذلك يتعمدون الإساءة إلينا…! كن قويًا، فهؤلاء لا يحترمون إلا الأقوياء، ولا تهتم أو تكترث بما يقولون…!” ثم أحسست بأنه قد توقف عن الكلام فبادرته قائلا: “ما تفضلتَ به -يا معالي السفير- سيكون بالتأكيد محل حرصي واهتمامي”. ثم سكتنا قليلا فشعرتُ بأنَّ وقت المقابلة قد أزف، فسألته إن كانَ يأمرني بشيءٍ أو يأذن لي بالانصراف، ابتسمَ فجأةً وقال: “الانصراف…! كلمة لا تجدها إلا في القواميس العسكرية، لم يكن لي ميول عسكري يومًا من الأيام، ولكني أحب الانضباط لديكم، أنتم أيها العسكر، لكم أسلوبكم، ومفرداتكم”. ثم نهض بقامته الطويلة نهوض جمل يحمل أثقالًا، ومد يده مصافحًا وقال: “على أي حال اتمنى لك التوفيق في عملك” وانصرفت مبتهجًا، فالمقابلة مَرّت بسلامٍ، وعلى العكس مما توقعتُ قبل المقابلة، فالعديد ممن سبقوني تركوا عندي انطباعًا بأنَّ السفير لديه حساسية تجاه العسكريين بوجه عام…! لقد أمضيت أربع سنوات أحضر ديوانيته، ولم أشعر بذلك قط.
غادر غازي القصيبي لندن، وجاء الأمير تركي الفيصل من بعده، واستدعاني لمقابلته بعد مضي قرابة شهرين من وصوله. وصلتُ في الموعد المحدد فوجدتُ مكتب السكرتاريا مزدحم بالأشخاص، وباب مكتب السفير مفتوح على مصراعيه. انتظرتُ نصفَ ساعة ولم يؤذن لي بالدخول، كنتُ أسمع حديثًا يدور بينه وبين أشخاص من داخل المكتب، فسألتُ السكرتيرة فأشارت لي بالدخول بنظرةِ مَنْ فَقَدَ السيطرة، وقفتُ عند باب المكتب المفتوح وطرقتُه برفق وألقيت السلام من بعيد، فسكت من كانوا حوله، فنظر إليَّ الأمير باستغراب، فعرّفته بنفسي وأنَّ لدي موعدَ لقاءٍ معه، فرحّب بي قائلًا: “أهلا وسهلا تفضل سيادة العقيد” فصافحته، وطلب مني الجلوس على أريكة في زاوية من المكتب. ثم جاءَ وجلسَ بجانبي بعد أن انفضّوا من كانوا يجلسون معه. كان لطيفًا محترمًا ومتواضعًا. له بشرة داكنة ويبدو أكبر من عمره؛ بسبب أخاديد حفرها الزمن أسفل وجنتيه. لديه فكر مُنظم ودقيق بشكل لافت للنظر، يتحدث بثقة وبصوتٍ مسترخي النبرات بطريقة توحي بأنه يعرف الأمور سلفًا…! يُحِبُّ أن يلقي السؤال ويشاهد وقعه على المسؤول. فاجأني ومن دون مقدمات قائلًا: “نحن مقصرون يا عقيد صالح…!” فعقّبت بالكليشة المعروفة: “هذا مؤكد يا سمو الأمير. ثم استرسل في الحديث: “نحن يا عقيد صالح مقصرون في نشر ثقافتنا بين الإنجليز، نحتاج أن نبذل جهودًا جبّارة بوضع برامج وتنظيم فعاليات في لندن، وفي جميع أنحاء بريطانيا، لنوصِل رسالتنا إليهم، وتغيير الصورة النمطية والسوداوية التي يروجها الإعلام المعادي للمملكة …!” كنت أستمع إليه بأذنٍ واحدة، وأهزّ رأسي، بينما أذني الأخرى يوشوش فيها الكلامُ الذي سمعته من غازي القصيبي…! بعدها حَلَّ شيءٌ من الصمتِ بيننا، وأمسكَ هو بكوب القهوة، ثم نظر إليَّ مبتسمًا وأشار إلى كوب القهوة الذي أمامي قائلًا: “القهوة يا عقيد صالح” أي اشرب قهوتك قبل أن تفتر. ففهمت أنَّ نهاية وقت المقابلة قد أوشك. ثم ختم الحديثَ مُؤكدًا ضرورة تضافر الجهود، وأن على الملحقية العسكرية دورًا كبيرًا، خصوصًا أنها تمتلك إمكانات أكثر من بقية الملحقيات…! فأكدتُ له بأني سوف أبذلُ ما في وسعي؛ للمشاركة في هذا الواجب الوطني. بعدها ودعته وانصرفت.
في المساءِ من ذلك اليوم اتصل بي صديقي عثمان، وهو رجل دولةٍ مخضرم، يكبرني سنًا، وقد تقلد العديد من المناصب، ولكن لم يكن –حينها- يشغل أي منصب. فاتّفقنا على تناول العشاء في مطعمٍ بناءً على رغبته. طلبتُ من صديقٍ آخر (ستيف تالنت) مشاركتنا العشاء فوافق. ستيف صديق وموظف سابق في الخارجية البريطانية، ولديه تفهّم لطبيعة نظام الحكم في السعودية. جلسنا في المطعم نحن الثلاثة، فطرحتُ عليهما مَوقِفَيْ السفير غازي، والأمير تركي، بطريقةٍ فيها نوع من الهزل محاولًا إثارةَ جدلٍ حيال تَعاطي كل منهما مع الإنجليز. وعلى العكس مما توقعت فلم يندهش عثمان مما قلت، ولم تظهر عليه علامات الاستغراب وقال: ” اسمع يا صالح: لا يوجد تباين أو تناقض بين الموقفين، غازي كان مُحقًا فهو يقصد النُخبَ السياسية، أما الأمير تركي فكان صائباً فهو يحاول مخاطبة العامة وليس النخب”. أقنعني تحليله للوهلة الأولى؛ فحبستُ أنفاسي قليلًا لكي أسمع رأيَ ستيف، الذي كان -كعادة الإنجليز- متحفظًا، ولكن مضمرًا نيته في الرد. فاستعجلته بطلب رأيه فتلكأ وبدأ الحديث بمقدمة شائعة على ألسنة الإنجليز: “هذا يعتمد كيف تنظر إلى هذه المسألة…! فلا يمكن الفصل بين العامة والخاصة في بريطانيا. فالأولى غالبًا تصبّ في الأخرى، وقد يحدث العكس أحيانًا…! مع أني أتفهم رأيَ الأمير تركي من جهة، ولكن من الأفضل التعاطي مع هذه المسألة بأسلوبٍ مُغاير، والسبب كما قال غازي بأننا كشعبٍ إنجليزي نعرف الكثير عن شعوبِ العالم خصوصًا العرب والسعودية بالتحديد. لدينا قناعات ليست بالضرورة صحيحة، أو على الأقل ليست من المنظور الإيجابي الذي يروق لكم سماعه. لذلك فمن المضيعة للوقت والجهد، لو حاولنا تغيير ذلك عن طريق حملة علاقات عامة لمدة أيام أو أسابيع، بنشرات دعائية، أو هدايا. والسبب أنَّ الرأي العام في بريطانيا مضمار متعدد المسارات، وفي حالة سجال دائم بَيِّن؛ لذا عليك أن تعرف كيف تسلك طريقًا متعرجًا بين حافتين من الهاوية للوصول إلى تلك الدوائر المتنفذة”، فاستطرد قائلاً: “اعتذر لكما فلا أدري إذا كان ما قاله تركي سوف يُحدث أي تَغَيّر يُذكر في الصورة النمطية عن السعودية، فالشعب البريطاني يقدم نفسه كمجتمع متقشف ينأى بنفسه عن مظاهر الترف، على العكس من الصورةِ النمطية للمجتمع السعودي المنغمس في إشباع الحاجات غير الضرورية عن طريق الترف المفرط. الرأي العام هنا يرى أنَّ البترول أداةً لابتزاز الاقتصاد العالمي، وممولًا لظاهرة التشدد الديني، ولا يخفى عليكما تبعات الحادي عشر من سبتمبر وما نشأ عنها من أثر” فاستوقفه عثمان قائلًا: “هذه صورة مغلوطة فهل من المفترض أن نسعى إلى تغييرها طالما أنها في الأساس ليست صحيحة…؟” قال ستيف: “نعم سيد عثمان، ولكن لا يهم، فعلينا أن نحاول الوصول إلى الرأي العام البريطاني بالطريقة الممكنة والتي يفهمها المجتمع” فقال عثمان: “ولكن كيف يا ستيف! نحن حاولنا على مرّ عقودٍ، والنتيجة كما ترى فشل معيب في حقنا” قال:” أعرف ذلك يا عثمان، وهذه نتيجة متوقعة، لعملٍ يُعَوّل على المال والبذخ، ويفتقر إلى قراءةٍ واقعيةٍ ودقيقة للحياة الاجتماعية والسياسية في بريطانيا، التي تشبه الى حدٍ كبير سوق البورصة…! تجد فيها الأسهم القيادية الرصينة، وأسهم المضاربة وأيضًا الأسهم الناشئة الواعدة وأخرى تمثل حطب السوق” ساد الصمت قليلا، كان عثمان حينها مرخيًا جسده على الأريكة، وهو يصغي بانتباه، ثم اعتدل وكسر السكون بهدوءٍ واضعًا مرفقيه على الطاولة ومدخلا أصابعه في بعضها وقال بصوت ناشئ عن علة في الأوتار الصوتية وبلغةٍ ركيكة ومتداعية في صياغتها: “هل من الممكن أن تضع الموضوع في صورة أبسط يا ستيف…؟” قال ستيف: “حسنًا سأحاول بقدر ما أستطيع: إن التيارات المؤثرة في بريطانيا عبارة عن عدة دوائر متداخلة، لا تلتقي في نقطة معينة. هي دومًا في حالة تجاذب، لذلك ليس لها مركز ولا تقع تحت سيطرة جهة بعينها” فتحمست ورغبت في المشاركة وقلت: “هل من الممكن معرفة تلك الدوائر…؟” قال: “نعم يا صالح، وهذا مهم، ولكن الأهم بالنسبة لكم هي معرفة تلك الجهات التي تحركها. فعندما أقول دوائر التأثير؛ أقصد مؤسسات الدولة التي تأسست وبقيت من دون تغيير لقرون عديدة، أو كما يقول الإنجليز هي موجودة منذ أن سلَّ يوليوس قيصر سيفَه…! فهي معروفة لدى أي بريطاني يملك الحد الأدنى من الاطلاع. لذا علينا أن نَعرِفَ، ونحدد تلك الدوائر، وأيضًا نرصد ونستهدف ذلك العدد الهائل من مؤسسات المجتمع المدني التي تُغذّي تلك الدوائر بشكل مباشر أو غير مباشر. من دوائر التأثير على سبيل المثال: الأحزاب الممثلة في البرلمان، المؤسسة العسكرية، الملكة ومن يدور في فلكها، الخارجية البريطانية، الاستخبارات وموظفو الخدمة المدنية. ناهيك أنه من الصعب جدًا اختراق أي دائرة من تلك الدوائر مباشرة، لذلك فالطريقة الممكنة هي محاولة العبور بالطريق الشاقّة والمتعرجة المؤدية إلى مؤسسات المجتمع المدني التي تُغذّي تلك الدوائر مثلاً: أن يكون لكم حضور وتعاون مع الجمعيات الخيرية الكبرى من خلال حملات مشتركة، ومع المنظمات البيئية مثل ناشيونال ترست (National Trusa) التي لها أتباع يفوقون العشرة مليون عضوًا، ومع جمعيات الفنون بأنواعها، ومع اتحادات الرياضة، وعالم المال والأعمال وغيرهم. ففي بريطانيا يوجد جمعيات وهيئات لكُلِّ شيء يخطر على بالك. هؤلاء هم المَعين الذي تغرف منه دوائر التأثير من خبرات وقيادات من أصحاب الفكر والمصالح. جميع هذه الجهات ليست محصنة من الدخول إليها، أو من الاختراق. لنلقي نظرة على واحدة من دوائر التأثير؛ لنرى الجهات التي لها نفوذ عليها، ولنأخذ على سبيل المثال الملكة:
ملكة بريطانيا تمتلك صلاحيات واسعة، مُخَوّلة لها من قِبَل دستور البلاد. كذلك لها أذرع وقنوات تصب فيها من خلال الخواص من الطبقة الأرستقراطية من ملاك الأراضي والسياسيين والتجار والجمعيات الخيرية التي تتلقى الدعم المادي والمعنوي من قصر (بكنغهام بالاس) وهناك حاشية القصر ورجال الدين، فالملكة تقف في أعلى سلم الهرم بالنسبة للكنائس الإنجليزية، يليها في المرتبة مطران (كاتدرائية كانتربري) والذي يعتبر أعلى سلطة دينية في بريطانيا. كذلك (كاتدرائية سانت بول) التي تأسست عام 604 م التي يقطنها مطران لندن. جميع هذه الجهات تحتاج من يطرق بابها ويبني الجسور معها، بما في ذلك رجال الدين عن طريق مشروعات التقريب بين الأديان والأعمال الخيرية في حالةِ الحروب والكوارث الطبيعية. إنَّ ما ذكرتُه –آنفاً- ليس مجرد نزهه على أحد الشواطئ بل يحتاج منكم خطةً على مستوى الدولة وعملًا شاقًا وطويلًا قد يستغرق سنوات معدودة على أصابع اليد، أو ربما عقود.”
كلام ستيف ألجمنا، وأفقدنا القدرة على الاسترسال ومواصلة الحديث معه، أيضًا أصابنا بنوعٍ من الإحباط فأنا وعثمان نعلم بأن هذه الخطة بعيدة المنال على الأقل في المنظور القريب. طلبنا القهوة مع شيز كيك بعد أن تناولنا العشاء ثم افترقنا.