دموع العيد
واذا مسكم الضرُ في البحر ضَلّ من تدعون إلا الله .. صدق الله العظيم .. سورة الاسراء
كانت السفينة تبحر بحذر، وهي تعبر النهر، عائدة إلى (ولستون) المرفأ الصغير النائم على ضفة نهر (اتشين) في ساوثهامبتون، جنوب بريطانيا؛ إذ تعاني من شدة الرياح، وتيارات مائية جارفة ومتغيرة. قيل إن مصدرها تيار دافيء قادم من خليج المكسيك، ذلك التيار الذي حال دون تحول الجزيرة البريطانية بأكملها إلى كتلة من الثلج.
في هذه الممرات المائية المزدحمة كهذا المكان يحتاج البحّار إلى خبرة، وتيقظ وحذر حتى لو كان لديه أحدث الأجهزة الملاحية وأدقها. فإذا استثنينا الحروب ومرض سكيرفي -آنذاك- (نقص فيتامين سي) فإنَّ تجاهل المؤثرات الطبيعية هي المسبب الأول؛ لغرق السفن. كان الجو –آنذاك- رماديًا كئيبًا، تحتجب فيه الأشياء، وتظهر تبعًا لكثافة الضباب، لكنه لم يحجب الشوق عن قلوب بَحّارة؛ باتت فرحةُ العودة متوسعة في صدورهم، إثر غياب طويل محفوف بالمخاطر دام أكثر من شهر.
عُدنا في يوم عرفة؛ يوم من أيام الله، الناس فيه يكبرون، ويهللون مع صوت آذان المغرب الذي انطلق عبر مكبرات الصوت الخارجية ” الله أكبر.. الله أكبر..” فامتلأت الأعين بالدموع؛ دموع العيد، بينما سرى صوتُ هذا النداء؛ ليصل صداه إلى جنبات هذا النهر المزدحم بالمنازل المتراصّة بأسقفها المغطاة بالقرميد الأحمر، البيوت تنفث دخانًا من المدافئ، يتلوى مُتصاعِدًا من بين أشجارٍ نفضت أوراقها بعد أن أنهكها الشتاء الطويل. أفطر الصائمون على عجلٍ في مراكزهم على تمر وشربة ماء، أما أنا فتناولتُ إفطاري على كرسي (الكابتن) في برج القيادة من أمام الشاشات الحمراء الباهتة، أراقب وأستمع إلى ما يصدر من تقارير وأوامر بين المواقع، لا أتدخل إلا معقبًا أو مصححًا لإجراء.
ولتفرد الكابتن بالمسؤولية؛ فإن شعور الوحدة يلازمه؛ إذ يمضي الوقت ببطئ، وقد أَلِفت أذني أزيز المحركات، وتكتكات العدادات، وطنين الأجهزة، وقرع الأجراس التي تنبه أكثر مما تخيف…! وفي هذه الأثناء، قفز أحدُ البحارة كالزنبرك صارخًا: “هناك رجل رمى بنفسه من فوق الجسر الذي أمامنا يا كابتن”. فأمسكتُ بالناظور أحدق في الجسر الشاهق الذي يربط بين ضفتي النهر محاولًا التحقق من رؤيته، فلم أرَ سوى خيال لسوادٍ يطفو فوق سطح الماء بسبب الرؤية المتدنية. لقد اختار هذا الرجل التوقيت بعناية فائقة، ففي اللحظة التي يصل فيه الجزر إلى الحد الأدنى تنكشف الصخور التي في حافة النهر؛ ليهوي بنفسه فوقها.
الجميع كانوا مذهولين أمام مشهد حزين ومثير للشفقة على فقدانِ روح استودعها اللهُ أمانةً لدى صاحبها. فاتصلتُ بمرشدِ الميناء على الفور، الذي جاء رده مفاجئًا وغير مكترث، وكأنه يرد على مكالمة روتينية قائلًا: “لا تقلق –سيدي- تركيبة العالم لن تتفكك، هذا هو الضحية رقم ٣٢ …!” أسكتني كمن يُسكِت ساعةَ مُنبّهٍ، ولكن تمكّنتْ منّي ابتسامةُ حزنٍ ساخرة، ثم التفَتُّ إلى من حولي قائلًا: “من منكم يريد أن يصبح رقم ٣٣…!” ضحك الجميعُ بعد شيءٍ من التردد وكأن شيئًا لم يكن.
هذه حادثة الانتحار رقم ٣٢ منذ إنشاء الجسر قبل ربع قرن من الزمان، مع ذلك فالإحصاءات تشير إلى أنَّ الإنجليز هم الأقل في معدلات الانتحار مقارنة ببقية دول أوروبا.
ناداني ضابط الملاحة (زيد) قائلًا: “عن إذنك يا كابتن، هناك سفينة حربية بريطانية قادمة سوف تمر على مقربة منا” فوقفتُ ووقف زيد بجانبي؛ لكي نتبادل التحايا حسب الأعراف المتبعة بين السفن العسكرية الصديقة، فمن بابِ الفضول أمسكتُ بالناظور فشدّ انتباهي ضابط الملاحة، الذي يقف بجانب كابتن السفينة الأخرى، فأعطيت زيدا الناظور؛ لكي يرى، فنظر ثم التفت إليّ، ونخر نخرة وهو يلعب بحاجبيه قائلا : “يا عيني على ضابط الملاحة، بنت شقراء ممشوقة القوام ومخملية العينين، والله حلاوة” قلتُ: “نعم الدنيا حظوظ يا زيد ..!” ضحك ضحكة جزلة وقال بحسّ دعابة متمرس: “مهما يكن ليس هناك أسوأ من حظي يا كابتن…!” سلقت زيدًا بنظرةٍ توحي بأن ملفَه سيتحول إلى بقع سوداء…!”.
لمعت أنوار الميناء، وانحرفت السفينةُ باتجاه الرصيف الذي انكشف أمامنا وظهرت مجموعةٌ من العوائل السعوديَّة على جانبٍ من الرصيف في انتظار ذويهم، بينما وقفت خلفهم فتياتٌ إنجليزيات يُلوحنَ بأيديهن تجاهنا قاصدين بَحَّارة شبابًا من ذوي الشعور المخضّبة بالــ(جِلّ)، لكنَّ الحياءَ من عيون الآخرين منع هؤلاء من رد التحايا، فلا غرو فمن على ظهر هذه السفينة هم من طينة البشر، يمثلون شرائح مختلفة من واقع المجتمع. أما على الجانب الآخر من الرصيف فقد وقف محتجون يحملون لافتات مكتوب عليها: “أيها السعوديون أوقفوا هذا الصراخ وعودوا إلى بلدكم” اتصلتُ على منسقِ الخدماتِ السيّد (تيري) فرد عليَّ قائلًا: “كابتن يبدو أن لدينا مشكلة…! هؤلاء المحتجون هم سكان الحي الواقع على ضفة النهر المقابلة لمكان رسو السفينة، غاضبون من الإزعاج الذي يصدره صوت الأذان من السفينة وهي راسية في الميناء، خصوصا أذان الفجر، وفي يوم الأحد بالتحديد. يبدو أنَّ الأمر أصبح لا يطاق؛ لذلك تجد نائبًا في البرلمان يتقدمهم، ويريد مقابلتك حالما ترسو السفينة”
رست السفينةُ بعد أن استقرّت الحبالُ حول رقاب الدعامات المثبتة في الرصيف، وأدينا الصلاة على عجل، ثم أقبل تيري يمشي مسرعًا بقامته الطويلة، ممسكًا بربطة عنقه؛ لكيلا يفقد أناقته أثناء المشي، فاستقبلتُه وهو يلهث قليلًا، وأخذته إلى مكتبي، فجلس أمامي واضعًا ذراعيه على ركبتيه وهو منحني إلى الأمام، وقال وهو يلتقط أنفاسه: “النائب في طريقه إلينا”. وما هي إلا لحظات حتى دخل علينا رجلٌ إنجليزي صرف، قصير مكتنز ناتئ العينين، له شدقان منتفخان قريب الشبه من ونستون تشرشل. لم يكن متعالٍ أو مغرور، بل صافحني وقال: “أنا النائب (مالكوم سواير) من الممكن أن تناديني (مالكوم)، فأنا جِئتُ لمهمةٍ، ولا داعي لإضاعة الوقت بالألقاب”. ثم جلس متجهمًا، وقال بتأفف: “أيها السادة اسمحوا لي بسؤال: متى سيتم إيقاف هذا الصوت…؟” تملصت من الإجابة مُبديًا الانشغال بتقديم القهوة له وبغية البحث عن جواب مناسب، فرد عليه تيري قائلًا: ” للعلم هذا نداء لصلاةٍ وليس مجرد صوت” قال: “حسناً، لا يهم؛ امنع هذا الصوت وسمه ما شئت…!” قلتُ: “اسمع يا مالكوم : قبل كل شيء، أنت -هنا- على ظهرِ سفينةٍ عسكرية؛ لذلك تُعتبر من الناحية السياديّة على أرض سعودية؛ طبقا للقانون الدولي، أي طالما نحن في داخل هذه السفينة فإننا نخضع للقوانين المحلية لبلدنا، ولنا الحق في ممارسة شعائرنا التعبدية كيفما نشاء، كما أنَّ لكم الحق في قرعِ الأجراس يوم الأحد لو قامت سفينة بريطانية بالرسو في أحد الموانئ السعودية، أو حتى شرب الخمور داخل السفينة، علمًا بأنَّ القوانين السعودية تمنع ذلك” فقاطعني رافعًا كفَّه في وجهي وقال : “شكرا جزيلا لست بحاجة إلى سماع محاضرة في القانون الدولي، أريد حلًا للمشكلة وأنتم …” قاطعه تيري بِحدّه قائلا : “ومن قال لك إننا لا نريد ذلك..! هؤلاء جاؤوا إلى هذا الميناء الذي صُنعت فيه سفينتهم قبل 3 سنوات، حيث كانوا ولايزالون يُؤَمِّنُون -على الأقل- ٣٠٠ وظيفة لهذا الحي، والأحياء المجاورة فهل تعتقد يا مالكوم أنه من اللائق أن تواجه هذه السفينة، وطاقمها بلافتات معادية كالتي يرفعها ناخبيك…! أنت تعلم بأن القانون في هذا البلد يُجرّم شعارات الكراهية؛ كتلكَ التي يرفعها هؤلاء الذين في الخارج، وللعلم، هذه السفينة لديها تصريح بالرسوّ هُنا من قِبَل السُلطات العليا للبلدين، أي أنها خاضعة للأعراف والقوانين الدبلوماسية، وليس إلى أي سلطة أو حكومة محلية. ليكن في علمك بأنَّ هؤلاءِ المحتجون قد اختاروا أسلوبا قد يقودهم إلى المساءلة القانونية…!” شعرتُ بأنَّ مالكوم قد انكمش وأصبح عاريًا من أي سند قانوني في بلدٍ، القوانينُ فيه متجذرة في نفوس الناس، وفي جميع مناحي الحياة. أيضا تأكدتُ بأنَّ موقف تيري مؤازرٌ لي، وشعرت حينها بأنني مسنود، فتوجهت له بالسؤال: “ما الحل المناسب برأيك يا مالكوم …؟”. لا أدري … قالها وهو يحملق في الفضاء، ثم استدرك: “مهمتي هنا المطالبة بحلٍ وليس إيجاد حل”. ثم رمقت تيري بنظرة استفهام، فقال: “كابتن، للأمانة أنا أعلم بأنكم تقدمتم -عدة مرات- للشركة الصانعة، بطلبِ إمكانية حجب المكبرات الخارجية أثناء الأذان؛ تلافيا للإزعاج، إلا أنَّ الشركة رفضت الطلب، بحجة أن هذا يُعدّ تغييرًا في التصميم، ويتطلب موافقة من الجهات العليا في الرياض، لما يترتب على ذلك من تكاليف مادية”. فحدّقت في وجه مالكوم وقلت: ” اسمع يا صديقي العزيز: نحن مستعدون لإيقاف مكبرات الصوت الخارجية أثناء الآذان، ولكن عليك إقناع الشركة الصانعة بالموافقة على عملِ هذا التغيير، أي أنَّ خصمك هم الشركة، فعليك الاحتجاج لديهم”. فصارت عيناه ترف، وهو يهز راسه وقال: “تماما فهمت القصة الآن، وسوف أقوم بالضغط على الشركة لعمل اللازم”.
نهضتُ ثم نهضَ، وودعته بابتسامة عريضة ومصطنعة، ثم ناديت عليه بعد أن ابتعد عني عدة خطوات وقلت ممالقًا بسخرية: “لو رفضت الشركة أي طلب لي مستقبلا فسوف أستعين بك يا مالكوم” ضحك وهو يهز كتفيه ثم انصرف. شكرتُ تيري على موقفه، وقلت له: “بإمكانك أن تبقى إذا أردت”؛ فجلسنا وطلبتُ لي وله كابتشينو وسيزكيك.
دخل (أحمد) إمام السفينة، وطلب مني ٣٠ جنيهًا؛ قيمة الأضحية فأعطيته فسألني تيري: “لاحظت أنَّ أحمد يجمع المال من الناس …!” قلت: “نعم؛ قيمة الأضحية”. قال: “وماهي الأضحية…؟” فقلت له: “إنها ثمن خروف يُوَزّع لحمه في عيد الأضحى على الفقراء”. قال: “طالما أنه يذهب إلى الفقراء فهل يمكنني أن أضحي…؟” قلتُ: “طبعا يا تيري، ولِمَ لا.” فقال أحمد: “لا…لا.. لا يمكن يا كابتن، الأضحية تجب على المسلم فقط”. قلتُ لتيري: ” هات ٣٠ جنيها فأعطيتها لأحمد، وقلت له نفذ الأوامر …!”.
بعدها خلا الرصيف من الناس بعد أن تفرقت الحشود، وغادر طاقم السفينة باستثناء المناوبين ثم غادرت أنا وحيدًا …